ترامب والتحديات التي تواجه الناتو مجددًا

تعتبر العلاقات بين الدول الأوروبية في حلف الناتو والولايات المتحدة منذ تأسيس هذا التنظيم عام 1949 حجر الزاوية لأمن أوروبا كاملة. ومع ذلك تعرضت هذه الشراكة لتغييرات ملحوظة مع تغير الأولويات الجيوسياسية للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين عند مجيء ترامب.

ينايِر 20, 2025 - 00:53
ترامب والتحديات التي تواجه الناتو مجددًا

تعتبر العلاقات بين الدول الأوروبية في حلف الناتو والولايات المتحدة منذ تأسيس هذا التنظيم عام 1949 حجر الزاوية لأمن أوروبا كاملة. ومع ذلك تعرضت هذه الشراكة لتغييرات ملحوظة مع تغير الأولويات الجيوسياسية للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين عند مجيء ترامب. لقد أدت النقاشات الأخيرة حول ميزانية الناتو وخاصة الضغط على الدول الأعضاء لتخصيص 5٪ من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي إلى زيادة التوترات داخل هذا التحالف.

تاريخيًا كان الناتو منصة أساسية للتعاون عبر الأطلسي حيث ضمن الأمن الجماعي ضد التهديدات المشتركة. وكانت القيادة الأمريكية في الناتو فعالة جدًا خلال الحرب الباردة حيث وفرت جزءًا كبيرًا من الميزانية والموارد العسكرية لمواجهة النفوذ السوفييتي في أوروبا.(1) في الواقع لعبت الولايات المتحدة بقدرتها العسكرية والاقتصادية الواسعة دورًا محوريًا في هذا التحالف وقدمت جزءًا كبيرًا من قدراتها العسكرية والردع النووي من أجل أمن أوروبا. في المقابل حصلت الولايات المتحدة على نفوذ استراتيجي في أوروبا وعلى منصةً قيّمةً لإظهار قوتها على المستوى العالمي. لقد خدمت هذه العلاقة التي كانت مفيدة لكلا الطرفين أوروبا وأمريكا بشكل جيد على مدى عقود مضت.

في أعقاب الحرب الباردة كانت هناك فترة من التباعد التدريجي وذلك حسب الأولويات. بينما كانت تركز أوروبا على الدفاع عن أراضيها واستقرارها الإقليمي، توجهت الولايات المتحدة بشكل متزايد نحو القضايا الخارجية لا سيما في منطقة غرب آسيا والتحديات في منطقة الهند والمحيط الهادئ مثل تزايد صعود الصين. وبالتالي تميز ظهور "أمريكا الجديدة" بعدة خصائص رئيسية. أولاً هناك تأكيد على سياسات "أمريكا أولاً" التي تعطي الأولوية لمخاوفها على الالتزامات الدولية. بالإضافة إلى ذلك هناك شكوك كثيرة تجاه المؤسسات متعددة الأطراف مثل الناتو حيث يتساءل البعض عن العلاقة وفعالية استمرارها. وأخيرًا هناك إدراك بأن الحلفاء الأوروبيين لا يتحملون نصيبهم العادل من الدفاع الجماعي ويعتمدون بشكل كبير على القوة العسكرية الأمريكية.

بالإضافة إلى ذلك فإن طلب الولايات المتحدة من أعضاء الناتو تخصيص 5٪ من ناتجهم المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي يعكس هذا التغيير في الأولويات. تقليديًا كان يُتوقع من أعضاء الناتو أن ينفقوا ما لا يقل عن 2٪ من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع لكن عددًا قليلاً جداً من الدول حقق هذا الهدف بشكل متواصل. إن الضغط من أجل فرض نسبة أعلى يُظهر إحباط الولايات المتحدة من ما يُعتبر الاعتماد المفرط لأوروبا على الدعم العسكري الأمريكي. تسعى الولايات المتحدة من خلال تشجيع الدول الأوروبية على تحمل أعباء مالية أكبر إلى إظهار توقعها بأن يتحمل حلفاؤها مسؤولية أكبر تجاه أمنهم.(2) في الواقع لم تعد الولايات المتحدة ترغب في إعطاء أوروبا فرصة للتمتع بخدمات مجانية وتسعى لاستعادة التكاليف من حلفائها حيث لم تعد مستعدة للاستثمار في هذه القضية.

بعبارة أخرى تميل الولايات المتحدة إلى عدم رؤية أوروبا كأولوية استراتيجية حيث تعتبر التهديدات الناجمة عن منطقة الهند والمحيط الهادئ أكثر إلحاحًا. ونتيجة لذلك بدأت الدول الأوروبية في التعامل مع هذه الحقيقة وهي أن اعتمادها الدائم على الضمانات الأمنية الأميركية قد لا يكون مستدامًا بعد الآن.

في هذا السياق يُعتبر أحد التحديات الرئيسية أمام أوروبا هو إيجاد توازن بين طموح الاستقلال الاستراتيجي والحقائق الأمنية. بينما لم تعد الولايات المتحدة ترى في أوروبا شريكًا استراتيجيًا بالقدر السابق تبقى التهديدات مثل حرب روسيا وأوكرانيا وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط جادة بالنسبة لأوروبا. ولكن دون القدرات العسكرية الأميركية خاصة في مجالات المعلومات واللوجستيات والأسلحة المتقدمة، فإن قدرة أوروبا على مواجهة هذه التهديدات ستكون محدودة بشدة.

في الوقت ذاته يتعرض الفرع الأوروبي للناتو لمزيد من الضعف والانقسام إذ لا تزال دول مثل بولندا ودول البلطيق تعتمد على دعم الولايات المتحدة بينما تدعو دول مثل فرنسا وألمانيا إلى سياسة أمنية أوروبية أكثر استقلالية. في الواقع تواجه أوروبا الآن رؤيتين للأمن مختلفتين وإذا لم تتم إدارتهما بشكل صحيح فقد يؤدي ذلك إلى انقسام واسع في أوروبا.
علاوة على ذلك فإن العواقب المالية لهدف تخصيص 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي للميزانية الدفاعية تُعتبر هامة، وتتطلب زيادة كبيرة في الميزانيات الدفاعية وربما تقليص ميزانيات قطاعات أخرى مثل الرفاه الاجتماعي. لجذب الدعم العام يجب على القادة الأوروبيين تقديم مبررات مقنعة لهذه الزيادة في الميزانية مما يمثل تحديًا كبيرًا لهم إذ أصبح الناس الآن أكثر وعيًا بأن ضرائبهم كانت تُستخدم لخدمة أهداف الولايات المتحدة. على المدى الطويل تعتمد ملاءمة أوروبا مع هذا الوضع الجديد على الابتكار والتعاون الواسع.

في النهاية، تعكس العلاقة المتغيرة بين الناتو والولايات المتحدة التغييرات الأوسع في النظام العالمي، ويجب على أوروبا التكيف مع دورها الجديد في العلاقات عبر الأطلسي، مما يتطلب التزامًا ماليًا أكبر بالدفاع وإعادة النظر في نهجها الأمني والاستراتيجي. في الواقع يجب على أوروبا أن تدرك أنها لم تعد شريكًا استراتيجيًا مهمًا للولايات المتحدة في عقيدتها الجديدة وأن القيام بدور مستقل أصبح ضرورة لكي تبقى فاعلًا مهمًا في النظام الدولي.

امين مهدوي

1. nato.int
2. bbc