الفخ الأمريكي!
ترجع جذور هذا الاعتماد جزئيًا إلى التطور التاريخي للصناعات العسكرية في أوروبا. خلال فترة الحرب الباردة استثمرت الدول الأوروبية استثمارات كبيرة في تطوير القدرات المحلية

لطالما كان الهيكل الأمني في أوروبا متشابكا بشكل عميق مع الولايات المتحدة لعقود من الزمن، مما عزز درجة عالية من الاعتمادية بينهما في المجال العسكري. يتجاوز هذا الاعتماد مجرد توفير الأسلحة الأمريكية ليشمل أبعادًا تكنولوجية وصناعية واستراتيجية أيضًا. في ظل سياق جيوسياسي متغير يتسم بظهور تهديدات جديدة في القارة وشكوك حول الالتزام طويل الأمد للولايات المتحدة تجاه أمن أوروبا، أصبحت الحاجة ماسة لإعادة تقييم مدى وجدية هذا الاعتماد.
شهد مستوى الاعتماد العسكري لأوروبا على الأسلحة الأمريكية في السنوات الأخيرة زيادة كبيرة. بين عامي 2020 و2024، تضاعف استيراد الأسلحة من قبل الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو لأكثر من مرتين مقارنةً بالمدة الخمس سنوات التي سبقتها، حيث شهدت الزيادة نسبة كبيرة بلغت 105 بالمئة. يُعزى جزء كبير من هذه الزيادة إلى الولايات المتحدة حيث وفرت 64 بالمئة من هذه الأسلحة خلال هذه الفترة، بينما كانت هذه النسبة تمثل 52 بالمئة في الفترة بين عامي 2015 و2019. وهذا يدل على حصة كبيرة من واردات الأسلحة الأمريكية للدول الأعضاء في الناتو الأوروبي كل فترة خمس سنوات على مدى العقدين الماضيين.[1]
كما أصبحت أوروبا لأول مرة خلال العشرين عامًا الماضية الوجهة الرئيسية لصادرات الأسلحة الأمريكية، حيث استحوذت على 35 بالمئة من إجمالي الصادرات. حتى نهاية عام 2024 كانت الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو قد تلقت حجمًا كبيرًا من الطلبات المتأخرة من الولايات المتحدة بما في ذلك حوالي 500 طائرة مقاتلة و150 مروحية حربية بالإضافة إلى أكثر من 150 طائرة مقاتلة و60 مروحية حربية تم تسلمها في السنوات الخمس السابقة. تُعتبر دول مثل المملكة المتحدة وهولندا والنرويج من المشترين الرئيسيين للأسلحة الأمريكية في أوروبا. وتبرز هذه الاعتمادية العسكرية بشكل خاص في مجالات القدرات العسكرية المتقدمة وخصوصًا الطائرات المقاتلة. بينما تزايد الاعتماد العام على الولايات المتحدة إلا أنه ليس متساويًا عبر جميع أنواع الأسلحة. غالبًا ما تُفضل الدول الأوروبية شراء السفن البحرية ومعدات القوات البرية من مزودين أوروبيين أو غير أمريكيين باستثناء بعض أعضاء الناتو في دول أوروبا الوسطى الذين يُعطون الأولوية لمعدات القوات البرية الأمريكية لتعزيز العلاقات الأمنية.[2]
ترجع جذور هذا الاعتماد جزئيًا إلى التطور التاريخي للصناعات العسكرية في أوروبا. خلال فترة الحرب الباردة استثمرت الدول الأوروبية استثمارات كبيرة في تطوير القدرات المحلية. ومع ذلك مع انتهاء المواجهة الثنائية والاندماج الاقتصادي المترتب عليها في أوروبا أصبحت الصناعات الدفاعية الوطنية تتجه بشكل متزايد نحو الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية كخيار اقتصادي وسياسي أكثر جدوى. على الرغم من أن أوروبا لا تزال تمتلك قدرات صناعية ملحوظة إلا أن تركيزها غالبًا ما كان على تطبيقات تجارية بدلاً من البحث والتطوير في المجال العسكري المتقدم. وقد أدى هذا التباين إلى ضعف نسبي في إنتاج الأسلحة المتقدمة بشكل مستقل مقارنةً بالولايات المتحدة. علاوة على ذلك غالبًا ما تُقسم ميزانيات الدفاع الأوروبية بين أولويات متعددة بدءًا من تحديث الأنظمة القديمة وصولاً إلى الوفاء بالتزامات الناتو. ونتيجة لذلك يتم تخصيص جزء صغير فقط من هذه الميزانيات لتطوير أنظمة أسلحة متقدمة محلية.[3]
إن تأثير السياسات الأمريكية على القدرات الدفاعية لأوروبا عميق جداً. حيث تتحكم اللوائح الأمريكية بشأن الصادرات واتفاقيات تبادل التكنولوجيا والسياسات العامة المتعلقة بالرقابة على الأسلحة بشكل مباشر في الاكتفاء الذاتي العسكري لأوروبا. على سبيل المثال السياسات التي تحد من انتقال بعض مكونات التكنولوجيا المتقدمة إلى المنتجين الأجانب غالبًا ما تعيق تطوير بدائل أوروبية للأسلحة الأمريكية. يتفاقم هذا الأمر بسبب واقع أن المتعاقدين الدفاعيين الأمريكيين يهيمنون على الابتكار العالمي في العديد من المجالات الحيوية. إن التغييرات في الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة سواء الناتجة عن قيود الميزانية أو التغيرات في القيادة السياسية أو تغيير فهم التهديدات يمكن أن تؤدي إلى تغييرات مفاجئة في إمكانية وصول الحلفاء الأوروبيين إلى الأسلحة الأمريكية. ونتيجة لذلك يتعين على الدول الأوروبية أن توافق بشكل مستمر على خططها الدفاعية مع السياسات الأمريكية مما قد يؤدي أحيانًا إلى فقدان الاستقلال الاستراتيجي على المدى الطويل.
تتمثل عواقب هذا الخلل في أن الاكتفاء الذاتي العسكري لأوروبا يصبح مجرد أمنية وليس واقعًا. على الرغم من المبادرات العديدة التي تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي من خلال المشاريع المشتركة وزيادة النفقات الدفاعية إلا أن التحديات الهيكلية الأساسية ما زالت قائمة. فقد ساهمت التباينات في السياسات الدفاعية الوطنية والسوق المحدودة للأنظمة المتقدمة والتكاليف العالية والمخاطر المرتبطة بالاستثمارات في البحث والتطوير في هذه النقص.
في الختام، يمكن القول إن الاعتماد العسكري لأوروبا على الأسلحة والمعدات الأمريكية يعد تحديًا متعدد الجوانب يتجاوز مجرد التوريدات العسكرية. فضعف هذه القارة النسبي في إنتاج أنظمة تسليحية متقدمة بشكل مستقل جعلها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على تكنولوجيا الولايات المتحدة وأثر بشكل كبير على سياساتها. لا يقتصر هذا الاعتماد على تقييد قدرة أوروبا على تحقيق الاكتفاء الذاتي العسكري الحقيقي بل يجعله أيضًا أداة استراتيجية في يد الولايات المتحدة. بينما تسعى الدول الأوروبية نحو مزيد من الاستقلال في شؤون الدفاع فإن التغلب على هذه الاعتمادات الجذرية يتطلب جهودًا منسقة، واستثمارات كبيرة في البحث والتطوير ونهج موحد لتعزيز الصناعات العسكرية الوطنية ومع ذلك فمن المحتمل أن تكون هذه عملية طويلة ومعقدة.