بولندا والثقة السياسية على حافة الهاوية !

أظهرت الانتخابات الرئاسية لعام 2025 في بولندا والتي عقدت في 18 أيار بشكلٍ جليّ مدى الانقسام الأيديولوجي بين التيارات الليبرالية والمحافظة.

مايو 26, 2025 - 03:15
 55
بولندا والثقة السياسية على حافة الهاوية !
بولندا والثقة السياسية على حافة الهاوية !

أظهرت الانتخابات الرئاسية لعام 2025 في بولندا والتي عقدت في 18 أيار بشكلٍ جليّ مدى الانقسام الأيديولوجي بين التيارات الليبرالية والمحافظة. فلم تكن المنافسة بين رافال ترزيوسكي عمدة وارسو الليبرالي من حزب المنصة المدنية، وكارول ناوروكي المرشح المحافظ من حزب القانون والعدالة، تعكس رؤى مختلفة لمستقبل بولندا فحسب بل سلطت الضوء أيضًا على أزمة سياسية مصحوبة باستقطاب متزايد وسخط عام. إن هذه القضية التي كانت حاضرة في الانتخابات السابقة يمكن أن تكون بمثابة إشارة تحذير للمجتمع البولندي الذي أصبح مجتمعاُ منقسماً لقطبين مختلفين تماماً.
يتجه المناخ السياسي البولندي نحو انقسام عميق قبل وبعد انتخابات عام 2025. وكانت آراء تيريشيفسكي مؤيدة بقوة لمزيد من المشاركة مع أوروبا والإصلاحات البنيوية. وأكدت مواقف ناورو على التقاليد والقيم القومية. وتشير النتيجة القريبة للجولة الأولى من الانتخابات، مع تقدم تيريشيفسكي بفارق ضئيل (حوالي 2 في المائة) إلى استياء واسع النطاق دفع بعض المواطنين إلى مقاطعة الانتخابات أو دعم مرشحين بدلاء مثل سلافومير مينتزن (مرشح الحركة اليمينية المتطرفة). وهذا مؤشر واضح على وجود أزمة سياسية عميقة حيث اهتزت "الثقة" في الحكومة والمؤسسات القضائية بسبب "التسييس".(1)
  
علاوة على ذلك فإن الأجواء الغامضة وغير المؤكدة للانتخابات فرضت ضغوطاً نفسية واجتماعية شديدة على الشعب. وفي مواجهة أفق السياسة الداخلية غير المؤكد، أصبح العديد من المواطنين قلقين وغير متحمسين، وخفضوا من مشاركتهم في العمليات السياسية. ويشكل هذا التراجع في المشاركة مظهراً من مظاهر العواقب الاجتماعية للانتخابات، والتي يمكن أن تثير التساؤلات حول شرعية العمليات الديمقراطية وتؤدي في نهاية المطاف إلى انخفاض كفاءة المؤسسات الحكومية. وفي مثل هذه الحالة يتزايد خطر التسرع السياسي واتخاذ القرارات الشعبوية. وقد أدت هذه العواقب الاجتماعية للانتخابات إلى خلق أزمة هوية وتناقضات عميقة في المجتمع.

وبالتزامن مع هذه التوترات تشهد المدن الكبيرة والصغيرة في بولندا احتجاجات ومظاهرات في الشوارع. وتنظم المجموعات المؤيدة لتراشيفسكي والمؤيدة لنافروكي مظاهرات ومسيرات للتعبير عن رسالتهم المتمثلة في عدم الثقة تجاه الحكام السابقين أو أولئك الذين يؤيدون الوضع الراهن. ورغم أن هذه التجمعات المدنية تشكل مؤشراً على الديناميكية الاجتماعية والمطالب الشعبية فإنها تعكس أيضا أزمة ثقة وغياب القنوات الرسمية والفعالة للتعبير عن الانتقادات. عندما يشعر الناس بأن أصواتهم لا تُسمع، فإنهم يلجأون إلى أساليب أكثر تطرفاً مما قد يؤدي إلى اضطرابات أوسع وتصاعد العنف. وتشكل هذه الاتجاهات مؤشراً على "أزمة ثقة" في المؤسسات السياسية وتشير إلى أن القنوات الرسمية غير كافية أو غير قادرة على نقل مطالب الشعب.(2)
  
وبالإضافة إلى ذلك تشير التقارير إلى أن الهجمات الإلكترونية وعمليات الحرب النفسية التي تقوم بها جهات أجنبية وخاصة روسيا استهدفت المجتمع البولندي. وقد أدت هذه التدخلات التي تهدف إلى الحد من شرعية العملية الانتخابية وتقويض ثقة الجمهور إلى تفاقم الإنهيار النفسي وتعميق الانقسامات السياسية. ورغم عدم وجود أدلة أو مصادر محددة تدعم الادعاء بأن روسيا تدخلت في هذه العملية، فإن الموقع الجغرافي لبولندا كحصن للغرب ضد التهديدات الروسية يجعلها عرضة لجميع أنواع عمليات التسلل والتلاعب بالمعلومات.(3)

وعلى نحو مماثل أدى الجمع بين الاستقطاب الداخلي والتهديدات الخارجية إلى تفاقم المخاوف بشأن تراجع "التماسك الديمقراطي". وأكدت هيئات المراقبة مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا على ضعف الثقة العامة، مشيرة إلى ضعف استقلال القضاء ودور مقر الانتخابات في التحقق من الأصوات. ويحول هذا التباين دون تشكيل جبهة موحدة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

وبالإضافة إلى ذلك فإن وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان لها أهمية خاصة في هذه الظروف. حيث ساهم الصحفيون المستقلون والمنظمات غير الحكومية في تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال الكشف عن المخالفات الانتخابية، وتغطية الاحتجاجات عن كثب والتحقيق في التدخل الأجنبي. وتشكل رواياتهم الوثائقية جزءاً مهما من الذاكرة الجماعية مما يمهد الطريق للحوار الوطني وإيجاد الحلول السلمية. إن الوجود الفعال لهذه المؤسسات يمكن أن يكون جزءاً من معالجة أزمة الثقة في المجتمع ومنع انتشار انعدام الثقة المطلق. وفي هذا التحول الخطير تلعب الشرطة والقضاء أيضاً دوراً مهماً في الحفاظ على الأمن وضمان حقوق المواطنين. إن التعامل السريع والنزيه مع الانتهاكات الانتخابية والتعامل مع الأعمال العنيفة أثناء الاحتجاجات وضمان الأمن في الفضاء الإلكتروني كل ذلك يساهم في تعزيز الثقة العامة. ولا يمكن منع تفاقم الأزمة السياسية والحفاظ على المسار الديمقراطي إلا من خلال نهج أمني وقانوني شامل.(4)
 
إذا لم تتمكن بولندا من إيجاد طريقة للحد من الاستقطاب السياسي وإعادة بناء الإجماع الوطني، فإن خطر عدم الاستقرار الداخلي سوف يتزايد يوما بعد يوم. وبالإضافة إلى تهديد التكامل الداخلي فإن مثل هذا الوضع من شأنه أن يهز ركائز مهمة للأمن الجماعي الأوروبي. ويتعين على بولندا باعتبارها أحد المحاور الاستراتيجية لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية، أن تمنع نفسها من أن تصبح نقطة ضعف أمنية وأن تحافظ على مكانتها كشريك موثوق به من خلال استعادة الاستقرار والتضامن.

وأخيراً ونظراً لتعقيد الظروف الاجتماعية والسياسية في بولندا والآثار السلبية للثنائية القطبية الشديدة، فمن الضروري أن يجد السياسيون والقادة في البلاد طريقة لإعادة بناء الثقة والتضامن الوطني. ولن يتسنى ذلك إلا من خلال الحوار البناء واحترام حقوق الجميع في المجتمع وتعزيز المؤسسات المدنية. وإذا لم تتبع بولندا هذا المسار، فلن تقع في أزمة داخلية فحسب بل أيضاً ستضعف بشدة أحد الركائز المهمة لحلف شمال الأطلسي. وهو ما يعرّض الأمن الأوروبي للخطر. ومن ثم فإن الاهتمام العاجل باستعادة التماسك الاجتماعي والسياسي ينبغي أن يكون على رأس أولويات أجندة جميع صناع السياسة في بولندا.


أمين مهدوي

1-https://www.politico.eu/europe-poll-of-polls/poland
2-https://worldview.stratfor.com/article/political-polarization-fuels-uncertainty-ahead-polands-2025-presidential-election
3-https://disa.org/poland-prepares-for-potential-cyberattacks-and-disinformation-campaigns-in-advance-of-presidential-election/?utm_source=chatgpt.com
4-https://www.nytimes.com/2025/05/15/world/europe/poland-election.html