بريطانيا غارقة في أزمتها

وصلت أزمة السكن في بريطانيا وخاصة في إنجلترا إلى مستوى ينذر بالخطر الفعلي. وأثرت على جزء كبير من الشباب وحياتهم، ووفقا لتقرير صادر عن معهد الدراسات المالية ارتفعت نسبة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و 34 عاما الذين يعيشون مع والديهم بأكثر من الثلث على مدى العقدين الماضيين إلى 18٪.

ينايِر 20, 2025 - 02:38
بريطانيا غارقة في أزمتها
وصلت أزمة السكن في بريطانيا وخاصة في إنجلترا إلى مستوى ينذر بالخطر الفعلي

وصلت أزمة السكن في بريطانيا وخاصة في إنجلترا إلى مستوى ينذر بالخطر الفعلي. وأثرت على جزء كبير من الشباب وحياتهم، ووفقا لتقرير صادر عن معهد الدراسات المالية ارتفعت نسبة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و 34 عاما الذين يعيشون مع والديهم بأكثر من الثلث على مدى العقدين الماضيين إلى 18٪.(1)

وقد زادت هذه الظاهرة نتيجة الارتفاع المذهل في أسعار المساكن وارتفاع الإيجارات فضلاً عن عدم قدرة السياسات المالية على كبح جماح التضخم الحاصل. وبالتالي فإن هذه الأزمة ليست مجرد مسألة اقتصادية بل هي تحدٍ اجتماعي وسياسي واسع النطاق. وإذا لم تُحل هذه المشكلة فإنها ستؤدي إلى زيادة المشكلات الأسرية وانخفاض معدلات الزواج وزيادة معدل الشيخوخة بين السكان مما يهدد في النهاية المطاف الاستقرار الاجتماعي على المدى الطويل للمجتمع البريطاني.

أحد أهم العوامل التي تؤدي إلى هذه الأزمة هو الزيادة المفرطة في أسعار المساكن وتكاليف الإيجار. وقد أدى عدم قدرة بنك إنجلترا على خفض أسعار الفائدة إلى تفاقم هذا الوضع، ويرجع ذلك وبنسبة كبيرة إلى التضخم المستمر. لا يزال التضخم يمثل عقبة أمام القدرة على شراء المنازل حيث يمنع العديد من الشباب من الحصول على سكن لائق. هذا الأمر بدوره يجبر أعدادًا متزايدة من الأفراد على الاعتماد على عائلاتهم مما يؤدي إلى ظروف معيشية سيئة عند الأسر المكتظة ويشكل ضغطًا اقتصاديًا عليهم.

أيضًا تتفاقم هذه الأزمة بفعل عدم التناسب بين نمو الأجور وتكاليف المعيشة. فالكثير من الشباب المتخصصين رغم تمتعهم بوظائف بدوام كامل يجدون أنفسهم غير قادرين على توفير حتى أبسط أنواع المساكن، بسبب الأجور الثابتة التي لا تتماشى مع ارتفاع التضخم. ونتيجة لذلك فإن آفاق الوصول إلى سكن مستقل لأغلب الشباب البريطاني غير مشجعة.
بالإضافة إلى ذلك يعد أحد أكثر العواقب الاجتماعية إزعاجًا لهذه الأزمة هو الزيادة المحتملة في حالات العنف الأسري والخلافات العائلية. وغالبًا ما تؤدي الأسر المكتظة إلى زيادة التوتر والضغوط بين أفراد العائلة. 

وقد يواجه الآباء الذين كانوا يتوقعون أن يصبح أبناؤهم مستقلين ماليًا حتى أواخر العشرينيات أو أوائل الثلاثينيات من عمرهم، صعوبة في التكيف مع وجودهم المستمر. يمكن أن يؤدي ذلك إلى صراعات حول القضايا المالية والخصوصية وأنماط الحياة المختلفة مما يعزز المشكلات العاطفية وفي بعض الحالات يؤدي إلى اشتباكات جسدية.

بالإضافة إلى ذلك تُظهر الأبحاث أن المشاكل الاقتصادية تعد العامل الأساسي المؤثر في العنف الأسري. عندما تترافق التحديات المالية مع نقص الخصوصية والمساحة الشخصية، تزداد فرص سلوكيات العنف. كما أن صحة الآباء والأبناء النفسية تكون في خطر حيث أن الاستقرار المالي المفقود وعدم الاستقلالية قد يؤديان إلى الاكتئاب والقلق واضطرابات نفسية أخرى.

ضف على ذلك فإن العجز في تأمين حياة مستقلة يترك أثراً سلبياً كبيرًا على معدلات الزواج في إنجلترا. وعندما يعجز العديد من الشباب عن الانتقال من منازل آبائهم تصبح فكرة تكوين أسرة جديدة بعيدة المنال. فالزواج غالبًا ما يرتبط بتوقعات الاستقرار والاستقلال وكلاهما يصبح غير متوفر بسبب الأوضاع الاقتصادية. تشير البيانات إلى أن الأمان المالي يلعب دورًا مهمًا في قرار الزوجين بالزواج. وعندما تستهلك تكاليف السكن جزءًا كبيرًا من دخل الفرد تؤجل الأهداف الأساسية الأخرى في الحياة مثل الزواج وتكوين الأسرة. ولقد أصبح هذا الاتجاه ملحوظًا منذ سنوات في بريطانيا لكن الأزمة الحالية تُسرع من انخفاض معدلات الزواج.

في الواقع انخفاض معدل الزواج له عواقب أوسع على الاتجاهات السكانية في بريطانيا. إن انخفاض معدل المواليد إلى جانب شيخوخة السكان يشكل خطرًا كبيرًا على البنية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. بدون دخول عدد كافٍ من الشباب إلى سوق العمل يزداد العبء التقديري لدعم المتقاعدين مما يضغط أكثر على الخدمات العامة ومعاشات التقاعد ونظام الرعاية الصحية.

وعلى الرغم من الوعود لمعالجة أزمة الإسكان فإن حكومة العمال قد فشلت في تنفيذ سياسات فعالة لتحسين القدرة على الشراء وزيادة عرض المساكن. بينما تم اقتراح عدد من الإجراءات بما في ذلك برامج الإسكان الميسور وقيود على الإيجارات فإن هذه المبادرات كانت غير كافية على أرض الواقع. لا تزال الطلبات على المساكن تتجاوز العرض ولم تكن جهود الحكومة كافية للتخفيف من الأزمة. 

تكمن إحدى القضايا الرئيسية في غياب تخطيط استراتيجي طويل المدى. بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية للأزمة مثل الوصول إلى الأراضي وتأخيرات البناء، والعقبات المالية لملكية المنازل، اعتمدت الحكومة على حلول قصيرة المدى لا تُحدث تغييرات دائمة. بالإضافة إلى ذلك فإن عدم الاستقرار السياسي والشكوك الاقتصادية قد أوقفا الاستثمار في تطوير الإسكان الجديد مما ترك المشكلة مستمرة دون حل.

في واقع الحال بدون تدخل فعال من الحكومة من المحتمل أن تستمر أزمة الإسكان مما يزيد إحباط الناخبين الشباب ويقوض الثقة العامة في القيادة السياسية. إن عدم معالجة موضوع القدرة على التملك لا يؤثر فقط على رفاهية الأفراد بل له أيضًا عواقب اقتصادية أوسع بما في ذلك انخفاض إنفاق المستهلكين وتراجع معدلات الادخار وزيادة الاعتماد على برامج المساعدة الحكومية.

إن أزمة الإسكان في بريطانيا ليست مجرد تحدٍ اقتصادي بل هي قضية اجتماعية وسياسية متجذرة لها عواقب واسعة النطاق. لقد أدى فشل حكومة العمال في تنفيذ السياسات السكنية الفعالة إلى تفاقم الأزمة، وترك العديد من الشباب البريطانيين دون خيارات مناسبة لامتلاك المنازل. إذا لم تُتخذ تدابير وقائية ستواجه بريطانيا ليس فقط أزمة إسكان مستمرة، بل أيضًا عدم استقرار سكاني واقتصادي طويل الأمد. ومن الممكن أن تسقط حكومة العمال قبل الأوان مما كان متوقعًا. لذلك تعتبر أزمة الإسكان بمثابة مقياس لحالة الاقتصاد والمجتمع البريطاني؛ فكلما تفاقمت الأزمة ستكون الأوضاع في بريطانيا غير ملائمة.

أمين مهدوي

1. ifs.org.uk