بداية الاستقلال الاستراتيجي؟

إن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية تشكل تحديًا معقدًا لفرنسا والاتحاد الأوروبي. علاقات فرنسا مع الولايات المتحدة التي كانت دائمًا تتسم بالتعاون وأحيانًا بالتوتر ستحتاج مرة أخرى إلى إعادة نظر تحت قيادة ترامب.

ينايِر 31, 2025 - 15:24
بداية الاستقلال الاستراتيجي؟
عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية تشكل تحديًا معقدًا لفرنسا والاتحاد الأوروبي.

إن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية تشكل تحديًا معقدًا لفرنسا والاتحاد الأوروبي. علاقات فرنسا مع الولايات المتحدة التي كانت دائمًا تتسم بالتعاون وأحيانًا بالتوتر ستحتاج مرة أخرى إلى إعادة نظر تحت قيادة ترامب. بالنظر إلى سياسات فترته الرئاسية الأولى مثل نهجه التجاري تجاه التحالفات، والشكوك بشأن الاتفاقيات متعددة الأطراف وتفضيله للسياسات الاقتصادية الوطنية من المحتمل أن تعيد فرنسا تحت قيادة إيمانويل ماكرون تقييم أولوياتها الاستراتيجية لتحقيق أهدافها.

في فترة رئاسة ترامب الأولى (2017-2021) كانت علاقات فرنسا والولايات المتحدة مزيجًا من التعاون والتوتر. وسعى ماكرون إلى إقامة علاقات وثيقة مع ترامب مع التأكيد في الوقت نفسه على القضايا المشتركة مثل مكافحة الإرهاب والعلاقات الاقتصادية. ومع ذلك تصاعدت التوترات بسبب انسحاب ترامب من الاتفاقيات الدولية بما في ذلك الاتفاق النووي الإيراني واتفاق باريس للمناخ.(1)

شهدت العلاقات التجارية بين البلدين أيضًا توترًا خاصة عندما فرض ترامب رسومًا جمركية على السلع الأوروبية رداً على ذلك اتخذ الاتحاد الأوروبي إجراءات موازية. وفي رد فعل على هذه السياسات، أكد ماكرون على تعزيز التوافق الأوروبي وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.

مع عودة ترامب واحتمال تصعيد التهديدات العالمية قدم ماكرون رؤية استراتيجية لتعزيز القدرات العسكرية الفرنسية واستقلالية الدفاع الأوروبي. لقد أكد دائمًا على فكرة "أوروبا المستقلة" حيث أن أوروبا  تستطيع الدفاع عن نفسها دون الاعتماد على الولايات المتحدة. وبالنظر إلى انتقادات ترامب لحلف الناتو ومطالبته الدول الأوروبية بزيادة ميزانيات الدفاع فمن المحتمل أن تكثف فرنسا جهودها لتطوير قدرات عسكرية مستقلة، بما في ذلك الاستثمار في تكنولوجيا الدفاع المتقدمة والتعاون الأمني مع الشركاء الأوروبيين. تشمل رؤية ماكرون الدفاعية زيادة الميزانية للصناعات الاستراتيجية مثل الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والدفاع الفضائي والردع النووي ونظام المعلومات المستقل.(2)

يتبنى الرأي العام في فرنسا نظرة سلبية تجاه دونالد ترامب. تظهر استطلاعات الرأي أن حوالي 60% من الفرنسيين يحملون وجهة نظر غير إيجابية تجاهه وهذا يعود بشكل رئيسي إلى سياساته خلال فترة رئاسته الأولى. انسحابه من اتفاق باريس بشأن التغير المناخي والخلافات التجارية والنهج الدبلوماسي غير المتوقع، تركا تأثيرًا دائمًا على الرأي العام الفرنسي.

مع عودة ترامب قد يتبنى ماكرون موقفًا أكثر صرامة تجاه السياسات الأمريكية خاصة في المجالات التي تتعارض مع مصالح فرنسا وأوروبا. قد يتضمن ذلك التزامًا أقوى بمشروعات الطاقة الخضراء والجهود الدبلوماسية لتحقيق التوازن مقابل الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجموعة السبع. يمكن ملاحظة هذا النهج في عدم حضور ماكرون في مراسم تنصيب ترامب، وهو إجراء جاء استجابة للرأي العام الفرنسي وكذلك كرسالة للولايات المتحدة بأن فرنسا مستعدة للعمل بشكل مستقل، بالإضافة إلى محاولة ماكرون لكسب المزيد من المصداقية لدى القادة الأوروبيين الذين يحتاجون إلى هذه المصداقية للانخراط في سياسات مستقلة.

في رد فعلهم على عودة ترامب من المرجح أن يؤكد القادة الأوروبيون، بما في ذلك ماكرون على فكرة الاستقلال الاستراتيجي. يشمل ذلك جهودًا لتعزيز القدرات الدفاعية لأوروبا وتقليل الاعتماد على الدعم العسكري الأمريكي وزيادة الاستثمار في الصناعات التكنولوجية والصناعية في الاتحاد الأوروبي.

من المحتمل أن تسرّع فرنسا بالتعاون مع ألمانيا المشاريع الدفاعية المشتركة مثل نظام المقاتلات من الجيل التالي (FCAS) وصندوق الدفاع الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك سيتم التركيز على السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الشركات التكنولوجية الأمريكية وتعزيز السيادة المالية الأوروبية من خلال زيادة الدور العالمي لليورو.

علاوة على ذلك من المتوقع أن تكون واحدة من النقاط الرئيسية للخلاف بين فرنسا والولايات المتحدة خلال فترة ترامب الثانية هي مقاربتهما تجاه الحرب في أوكرانيا. حيث أبدى ترامب شكوكًا حول الدعم طويل الأمد لأمريكا لأوكرانيا معتقدًا أن الدول الأوروبية يجب أن تتحمل مسؤولية أكبر. في المقابل كانت فرنسا أحد الداعمين الرئيسيين لكييف حيث قدمت مساعدات عسكرية ودبلوماسية. إذا اتخذ ترامب سياسة أكثر تسامحًا تجاه روسيا فقد يؤدي ذلك إلى توترات بينه وبين ماكرون. كما أن ضعف الالتزام الأمريكي تجاه حلف الناتو قد يجبر فرنسا وأوروبا على إعادة النظر في استراتيجياتهما الدفاعية.

بشكل عام، من المحتمل أن تشهد العلاقات الفرنسية الأمريكية في فترة ترامب الثانية توترات جدية، مما سيدفع فرنسا نحو الاستقلال الاستراتيجي إلى جانب القيادة الأوروبية. بينما ستظل التعاونات الضرورية في بعض المجالات قائمة وستزداد الخلافات الرئيسية في السياسات الدفاعية والمناخية والتجارية والجيوسياسية عمقًا. ويبدو أن فرنسا مستعدة لتبني مقاربة أكثر استقلالية، وهي مقاربة قد تعيد تعريف العلاقات عبر الأطلسي لعقود قادمة. إن نجاح هذا التغيير الاستراتيجي يعتمد بشكل كبير على قدرة فرنسا على تحقيق توافق في الآراء داخل أوروبا وتطوير بدائل موثوقة للأطر التقليدية التي تقودها أمريكا.

قد تكون هذه المرحلة نقطة تحول تاريخية في السياسة الخارجية الفرنسية وسوف تتجاوز تأثيراتها فترة رئاسة ترامب. التحدي الذي يواجه القيادة الفرنسية هو الحفاظ على التعاونات الضرورية مع أمريكا في ظل السعي لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي وحماية مصالح فرنسا وأوروبا.

أمين مهدوي


1.  euronews
2.  reuters