محورية العراق في معادلات الصراع مع الكيان الصهيوني
لعلّ حجم ردود الأفعال الإسرائيلية والأميركية والغربية وطبيعتها حيال قانون تجريم التطبيع العراقي، كانا كافيين لمعرفة وإدراك أهمية البوابة العراقية في مشاريع التطبيع، وخطورتها الكبيرة جداً على "إسرائيل" وحلفائها وأصدقائها فيما لو بقيت مغلقة بإحكام.
على طول الخط، ومنذ ما ينيف على السبعين عاماً، كانت وما زالت القضية الفلسطينية، بكل تشعباتها وتعقيداتها، تحتل أولوية متقدّمة في مجمل السياسات والمواقف الرسمية وغير الرسمية العراقية. وبعد سقوط نظام حزب البعث المنحلّ في ربيع عام 2003، تبلورت صورة تلك السياسات والمواقف بدرجة أكبر ارتباطاً بالمتغيّرات والتحوّلات الحاصلة، والتحديات والتهديدات القائمة.
وعند كل منعطف خطير، أو حدث كبير يتعلق بفلسطين، تتضح وتتجلى أكثر وأكثر المواقف والثوابت الوطنية العراقية حيال القضية المحورية والرئيسية لعموم العالمين العربي والإسلامي. ولعلّ مواقف الإدانة والرفض الأخيرة التي أطلقتها شخصيات وقوى وفاعليات سياسية ودينية واجتماعية عراقية مختلفة رداً على الإجراءات القمعية والتعسفية لقوات الاحتلال الصهيوني ضد المصلّين الفلسطينيين في المسجد الأقصى بالقدس الشريف، أبلغ وأوضح دليل وبرهان على ذلك، إلى جانب العديد من المظاهر الشعبية والجماهيرية في هذا الاتجاه، وأبرزها مهرجان "سنفطر في القدس" الممتد طوال أيام شهر رمضان المبارك، والذي انطوى على رسائل مهمة وعميقة وبليغة، لا سيما أنه جاء ضمن عنوان واسع اشتمل على فعاليات ونشاطات مماثلة في دول أخرى.
ولا شك في أن مواقف اليوم العراقية، لها جذور وخلفيات تاريخية، وهي تمثل استمراراً لتوجّه ونهج ثابت وراسخ، لم تشوّهه بقدر قليل إلا محاولات المتاجرة بالقضية الفلسطينية والمزايدة عليها من قبل نظام الحكم البعثي السابق (1968-2003)، للتغطية والتمويه على الكثير من ارتباطاته ومشاريعه الخارجية.
وما يستحق الإشارة هنا هو أن المرجع الديني الكبير الراحل الإمام محسن الحكيم (1889-1970)، افتى في ستينيات القرن الماضي بوجوب دعم القضية الفلسطينية ومساندتها من خلال دفع الحقوق الشرعية لمواجهة الكيان الصهيوني الغاصب، والتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني.
ولا يخفى على الكثيرين الأثر البالغ لمواقف المرجعيات الدينية في العالم الإسلامي في توجيه مسارات الوقائع على الأرض، وصوغ قناعات الرأي العام. إلى جانب ذلك، فإن هناك مفردات أربع نجدها حاضرة دوماً لدى العراقيين جماهيرَ ونخباً، وتتعاطى مع مجمل القضية الفلسطينية، ضمنها "يوم القدس العالمي"، والمفردات الأربع هي: الإمام الخميني، والوحدة الإسلامية، وديمومة المواجهة، وحتمية الانتصار، وكل مفردة من هذه المفردات تكمل الأخرى، لتنصهر جميعها في بوتقة واحدة، وتشكل مفهوماً عاماً ورؤية شمولية.
ولأسباب وعوامل وظروف سياسية شائكة ومعقدة، لم يك بإمكان العراقيين في عهد النظام السابق التعبير عن تلك المفردات الأربع بوضوح صراحة، بيد أن الحال تغيّرت تماماً بعد سقوط ذلك النظام، وباتت فلسطين حاضرة بقوة في المشهد العراقي العام، بعناوينه ومسمّياته السياسية والدينية والثقافية والمجتمعية، ولعلّ المصداق الأكبر والأوضح في ذلك، هو الإحياء السنوي الواسع لـ"يوم القدس العالمي"، فضلاً عن مواكبة مختلف المستجدات والتطورات الحاصلة على الأرض، خصوصاً الانتهاكات والاعتداءات الصهيونية المتواصلة على المقدسات الإسلامية وحقوق الشعب الفلسطيني، وآخرها ما حدث قبل بضعة أيام في المسجد الأقصى.
وبعد الإمام الحكيم ببضعة عقود، كان للمرجع الكبير السيد علي السيستاني موقف تاريخي مشرف حيال القضية الفلسطينية، عبّر عنه بوضوح في لقائه زعيم الفاتيكان البابا فرانسيس مطلع شهر آذار/مارس 2021، حينما زار الأخير العراق والتقى المرجع السيستاني في مكتبه البسيط والمتواضع في مدينة النجف الأشرف.
وارتباطاً بذلك، بادرت القيادة الفلسطينية إلى تقديم الشكر للمرجع السيستاني؛ لموقفه الداعم لمظلومية الشعب الفلسطيني والرافض لخيار التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ومن دون أدنى شك، لقد عكس شكر القيادة الفلسطينية وتقديرها، أهمية موقف المرجع السيستاني وأثره الكبير في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني قيادة وشعباً، في ظل تخاذل العديد من أنظمة الدول العربية والإسلامية وحكوماتها، وانبطاحها أمام الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل"، وهرولتها المحمومة لإبرام معاهدات واتفاقيات التطبيع المذلّ والمهين مع "تل أبيب"، في الوقت الذي يتعرض الفلسطينيون في كل يوم لشتى أشكال الانتهاكات وصنوف التجاوزات اللاإنسانية من قبل المؤسستين العسكرية والأمنية للكيان الصهيوني.
ومما لا خلاف عليه، أن القضية الفلسطينية وما تعرض له أبناء ذلك البلد ومقدساته على امتداد أكثر من سبعة عقود من الزمن، أي منذ اغتصاب الصهاينة لفلسطين في عام 1948، يعدّ أمراً مريعاً ومأساوياً، فالصهاينة لم يتركوا جريمة إلا وارتكبوها بحق المستضعفين من أبناء الشعب الفلسطيني المسلم، وبعض أبناء الشعوب الأخرى، وساعدتهم ودعمتهم في ذلك قوى كبرى، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، وما زال أبناء هذا الشعب يتعرضون لشتى صنوف العدوان والظلم والاستبداد البعيد كل البعد عن مبادئ جميع الرسالات والأديان السماوية، والبعيد كل البعد كذلك عن القوانين الوضعية المتعلقة بحقوق الإنسان وحق الشعوب والأمم في العيش بسلام وأمان.
وربما ساهم الإجماع العربي والإسلامي، وإن بدا في بعض الأحيان شكلياً، في إبقاء ظلامة الشعب الفلسطيني حيّة ومتحركة في نفوس المسلمين وضمائرهم وغير المسلمين، وهذه كانت نقطة مهمة وجوهرية من أجل استمرار المواجهة وديمومتها، وتجنّب الركون والاستسلام للكيان الصهيوني ومن يدعمه ويسانده ويقف وراءه.
وبقدر ما كانت "إسرائيل" ومعها قوى غربية، تعوّل كثيراً على إدخال العراق في دائرة التطبيع، بل وأكثر من ذلك، اعتباره المفتاح والمدخل الأساسي لكل المشاريع والمخططات المندرجة تحت مفردة التطبيع، لأسباب وعوامل تاريخية وجيوسياسية واقتصادية وثقافية، بقدر ما كان العراق بقواه السياسية الوطنية وفاعلياته المجتمعية المختلفة، يعزز ويقوي جبهة مناهضة التطبيع، عبر تكريس مواقفه وترسيخ ثوابته المبدئية في هذا المجال.
ولا شك في أن قانون تجريم التطبيع الذي أقرّه البرلمان العراقي بالإجماع في السادس والعشرين من شهر أيار/ مايو 2022، كان بمنزلة صفعة قوية لـ"تل أبيب"، ورسالة بليغة قطعت الطريق بالكامل أمام كل المراهنين على خضوع العراق واستسلامه، وبالتالي تغيير كل معادلات المنطقة لصالح المنظومة الإسرائيلية-الأميركية.
وما هو مهم للغاية أن حيثيات قانون تجريم التطبيع، مثلت نسفاً لكل الجهود والمساعي والتحركات الإسرائيلية بطابعها السياسي والاجتماعي والثقافي الرامية إلى اختراق بنية المجتمع العراقي، سواء عبر القنوات السياسية غير الرسمية، أو وسائل الإعلام المرئية، أو منصات التواصل الاجتماعي، أو الخلايا الاستخبارية، أو كل تلك الوسائل والأدوات مجتمعة تحت عنوان الحرب الناعمة.
ولعلّ حجم ردود الأفعال الإسرائيلية والأميركية والغربية وطبيعتها حيال قانون تجريم التطبيع العراقي، كانا كافيين لمعرفة وإدراك أهمية البوابة العراقية في مشاريع التطبيع، وخطورتها الكبيرة جداً على "إسرائيل" وحلفائها وأصدقائها فيما لو بقيت مغلقة بإحكام.
وقبل ذلك، شكّلت معركة "سيف القدس"، في أيار/مايو 2021، فرصة ومناسبة مهمة لإظهار حقيقة المواقف العراقية الداعمة للشعب الفلسطيني والرافضة للكيان الصهيوني، فبينما كانت دوائر صنع القرار في "تل أبيب" وواشنطن وعواصم أخرى تصوّب أنظارها وتركيزها على العراق باعتباره المحطة الأساسية والمحورية في مسيرة التطبيع، ارتباطاً بحقائق ومعطيات عديدة، جاءت المواقف الرسمية وغير الرسمية العراقية الداعمة للشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية في إطار تلك المعركة؛ لتشكّل رداً قاطعاً وصريحاً وبليغاً على كل محاولات جرّ بغداد إلى مسارات التطبيع التي سلكتها أبو ظبي والمنامة والرباط والخرطوم، وقبل ذلك القاهرة وعمّان.
ولم يجانب الحقيقة من قال، "إن الصهيونية تمثل خطراً في العالم الإسلامي ولديها أصابع وامتدادات هنا وهناك، وأن العراق يتحمّل جزءاً من مسؤولية الوقوف في وجه الامتداد الصهيوني في المنطقة".
وفيما بعد، احتضن العراق، وتحديداً مدينة كربلاء المقدسة، في السادس من شهر إيلول/ سبتمبر 2022 مؤتمر "نداء الأقصى الدولي" الأول بالتزامن مع إحياء الذكرى السنوية للثورة الحسينية وأربعينية استشهاد الإمام الحسين بن علي عليهما السلام. إذ تمحور موضوع ذلك المؤتمر الذي شارك فيه العشرات من علماء ورجال الدين من مختلف المذاهب الإسلامية، حول الرفض القاطع لكل مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني.
وربما انطوى اختيار كربلاء المقدسة لاحتضان ذلك المؤتمر على رسائل عميقة ومهمة جداً، تمثلت في أن الإمام الحسين وثورته الخالدة يمكن أن يشكلا نقطة التقاء، ليس للمسلمين فحسب، وإنما للبشرية على وجه العموم، بشتى عناوينها ومسمياتها، وفي الوقت ذاته، تكون فلسطين-القدس، نقطة التقاء أخرى بين الجميع، استناداً إلى مبادئ رفض الظلم والطغيان والاستبداد من أجل نيل الحرية والكرامة وصون المقدسات والحرمات. وهنا، فإن الزمان والمكان، وجوهر المواقف والتوجهات وماهيتها، جعلت العراق محوراً لبلورة التوجهات السليمة وترسيخها، وتشخيص وتحديد المسارات الصائبة.
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني، تحدد أرجحية أي طرف من أطرافها من خلال المواقف العراقية، فمتى ما كانت تلك المواقف مهادنة ومساومة وخانعة وخاضعة لرغبات "إسرائيل" ومشاريعها وأجنداتها، فحينذاك تكون كفّة الأخيرة هي الراجحة وقوتها هي المهيمنة، والعكس الصحيح. والحقائق والوقائع والمعطيات على الأرض أثبتت وتثبت ذلك على الدوام.
عادل الجبوري