صندوق الاستثمارات؛ الوجه الجديد للسعودية.. هل الخسارة تمثل انحرافاً في رؤية السعودية 2030؟
صندوق الاستثمارات؛ الوجه الجديد للسعودية.. هل الخسارة تمثل انحرافاً في رؤية السعودية 2030؟
نشأ الاقتصاد السعودي وازدهر بفضل النفط، الذي كان مصدر الدخل القومي الرئيس للمملكة، وبقيت السعودية تسير على هذا النهج حتى استلام الأمير محمد بن سلمان منصب ولي العهد في 2017، إذ عزم بن سلمان على محاولة تنويع الاقتصاد عبر دعم قطاعات الترفيه والرياضة والسياحة وغيرها، بهدف وقف الارتهان التاريخي للنفط.
تم تحويل صندوق الاستثمارات العامة السعودي من شركة قابضة تركز على المستوى المحلي إلى صندوق سيادي عام 2016، وبدأ بن سلمان، خطواته بالإطاحة بالمستثمرين القدامى الذين تولوا مشروعات وأعمال المملكة، واستقدم شركات جديدة بتبعية لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي يترأسه، وبضوابط جديدة صارمة، أتاحت له سيطرة حديدية على الاقتصاد.
وتنقل "فيننشال تايمز" عن الخبير الاقتصادي ستيفن هيرتوج، قوله: "هناك فكرة بين ولي العهد وبعض مستشاريه أن طبقة التجار القدامى كانوا من الذين يمتصون الأموال دون عمل ويبحثون عن الأرباح دون انتاج حقيقي، وهم يريدون تربية طبقة أعمال جديدة".
كما تنقل "فيننشال تايمز" عن مونيكا مالك كبيرة الاقتصاديين في بنك أبو ظبي التجاري ومؤلفة كتاب عن القطاع الخاص السعودي "هناك بالتأكيد تغيير في الحرس القديم" مضيفة: "تقود الكيانات التي تترأسها الحكومة عملية التنمية، الأمر أكبر بكثير من كونه نموًا مركزيًا يقوده القطاع العام".
فبرز صندوق الاستثمارات العامة السعودي باعتباره الأداة الرئيسة لمحاولات الأمير إصلاح اقتصاد المملكة المعتمد على النفط.
ويبحث الصندوق عن رأس مال جديد لخططه الاستثمارية الطموحة؛ وكجزء من هذه الجهود، فإنه يدرس تقليص حصصه في بعض أكبر الشركات في المملكة، وإدراج المزيد من الأصول المملوكة للدولة، إذ يمتلك الصندوق ما يقرب من تريليون دولار من المشاريع العملاقة والبنية التحتية المنتظرة، بما في ذلك مدينة مستقبلية مخطط لها في الصحراء السعودية.
وتجمع هذه المشاريع سيطرة مركزية، حيث يعمل الصندوق بشكل متزايد كمخطط ومقاول أساسي من خلال الشركات التي يمتلكها أو التي يمتلك فيها حصصًا.
الخسارة المفاجئة
قالت وكالة "بلومبيرغ" إن صندوق الاستثمارات العامة السعودي خسر في الأنشطة الاستثمارية نحو 11 مليار دولار خلال عام 2022، إذ أعلن سابقاً عن تحقيق عائد بنسبة 25 في المئة خلال عام 2021، بينما لم يكشف الصندوق عن رقم مماثل في حساباته لعام 2022، مشيرة إلى أن الصندوق يمر في خضم موجة استثمارية عالمية بعد أن تم تحويله من شركة قابضة تركز على المستوى المحلي إلى صندوق سيادي عام 2016.
وأشارت الوكالة إلى أن إجمالي أصول الصندوق السعودي، ارتفع إلى حوالي 778 مليار دولار من 676 مليارا لافتة إلى أن الصندوق السيادي استحوذ في الأشهر الأخيرة على اهتمام عالمي، إذ إنه قام بسلسلة من الاستثمارات المكلفة في كل القطاعات.
إن انطلاقة الصندوق كانت قوية إلى درجة أن توقع الخسارة بات احتمالاً غير موجود، وهو الأمر الذي جعل رجال الاقتصاد والخبراء فريقين، أحدهما يرى أن الخسارة أمر طبيعي وصحي، والآخر يرى الخسائر خاضعة لظروف موضوعية محيطة كان لها انعكاساً مباشراً على الصندوق.
فالخبير الاقتصادي السعودي، ياسين الجفري، يرى أن الخسائر المسجلة في العام الماضي تبقى "خسائر دفترية"، بمعنى أنها مسجلة فقط في السجلات المحاسبية للشركات أو المؤسسات، ولكنها ليست "خسائر فعلية في النقدية أو الأصول"، مضيفاً أن هذا النوع من الخسائر "طبيعي" نتيجة لتذبذب أسعار الأسهم العام الماضي، ومشيرا إلى أن الصندوق يقوم على استراتيجية عمل طويلة المدى، وبالتالي فإن التغيرات التي تحدث خلال سنة أو أقل لا تأثير لها.
ولفت الجفري إلى أن للصناديق الاستثمارية سياسات طويلة الأجل ولا تبتغي الأرباح المباشرة خلال النتائج ربع السنوية أو السنوية، وأن النتائج تتغير بـ"شكل سنوي مع اختلاف الأوضاع الاقتصادية، مثل ارتفاع أسعار الفائدة أو قيمة الدولار".
وبين الخبير الاقتصادي، أن الهدف الأساسي من كل الاستثمارات الحالية، هو خدمة أهداف 2030، وبالتالي فإن طبيعة القرارات الاستثمارية تتمركز حول بلوغ الأهداف الموضوعة وليس على النتائج السنوية المحققة، لافتاً إلى ازدياد قوة الصندوق بعد إعلان إتمام نقل حصة 4 بالمئة إضافية من أسهم "أرامكو" من ملكية الدولة إلى شركة تابعة لصندوق الاستثمارات العامة، لترتفع بذلك الحصة التي يسيطر عليها الصندوق في المجموعة النفطية إلى 8 بالمئة.
أما المحلل الاقتصادي، إسماعيل بن دويسة، فيرى أن السبب الرئيس وراء الأرقام السلبية التي سجلها الصندوق يتمثل في "انخفاض أسواق الأسهم خلال العام الماضي، بسبب المشاكل الجيوسياسية التي عرفها العالم وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع التضخم" إذ توجهت البنوك المركزية في الدول الكبرى نحو رفع معدلات الفائدة، ما أدى، إلى تراجع أسواق الأسهم، بشكل تضرر منه الصندوق الذي استثمر أصوله بقوة في عدد من القطاعات المتأثرة من الأزمة السابقة.
وأشار بن دويسة إلى أن الخسائر المسجلة "ليست كارثية ولا مؤثرة بقوة"، بالنظر إلى حجم أصول الصندوق، البالغ أكثر من 700 مليار دولار، وبالمقارنة أيضا بأرباحه الكبيرة في 2021، مضيفاً أن خسائر السنة الماضية "لن تكون لها أي انعكاسات مؤثرة على الصندوق"، وخاصة أن سوق الأسهم بدأت تنتعش في الست أشهر الأولى من العام الجاري، ما سيمكنه من تغطية جزء كبير من خسائر الفترة الماضية.
وأوضح بن دويسة أن الصندوق السيادي السعودي يشتغل باستراتيجية خمسية (كل خمس سنوات وغير سنوية)، بالتالي يمكن تعويض النتائج السلبية للعام الماضي، ويظهر هذا أساسا، في أن الصندوق السيادي لم يتوقف عن الاستثمار منذ بداية العام الجاري، في مجالات مختلفة.
وبينت "بلومبيرغ" في تقرير أن صندوق الاستثمارات العامة السيادي يدعم المشروعات الكبيرة التي يشرف عليها ولي العهد السعودي، مثل مشروع السياحة الرائد في منطقة البحر الأحمر ومنطقة "نيوم" الاقتصادية المزمعة بتكلفة 500 مليار دولار ومدينة "القدية" الترفيهية.
ولفتت "بلومبرج" إلى أنه في الأشهر الأخيرة، استحوذ الصندوق على اهتمام عالمي من أجل صفقة لدمج بطولة "LIV" للجولف المبتكرة مع "PGA" كجزء من خطة المملكة للاستثمار في الرياضة العالمية.
الطريق إلى السعودية 2030
تسعى السعودية في مشروعها الذي وضعه ويقوده ولي العهد السعودي "رؤية السعودية 2030" إلى الانتقال بالسعودية من شكل إلى آخر على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أي لتحول المملكة إلى مركز جذب لقطاعي الأعمال والسياحة.
ولعل مسارات هذه الرؤية تسير متوازية، لكن للمسار الاقتصادي فيها درجة متقدمة وذلك لارتباطه الوثيق بباقي المسارات، إذ يشكل محوراً صانعاً، أو إطاراً مرجعياً لها، لذا حرصت المملكة على تحول الاقتصاد أولاً إلى أشكال أخرى بعيدة عن هيمنة النفط، وبدأت تعمل على تنشيط الاقتصاد داخلياً وخارجياً.
أطلق بن سلمان، في آذار 2022 رسميا شركة "طيران الرياض" التي تهدف إلى تحويل عاصمة السعودية إلى "بوابة إلى العالم"، على حد تعبير وسائل إعلام حكومية، أما في أبريل 2023 فقد بدأ صندوق الاستثمارات العامة السعودي محادثات لشراء حصة في "فلاي ناس" المملوكة جزئيا للملياردير الأمير الوليد بن طلال، من أجل التوسع في قطاع الطيران المدني، وتعزيز قطاع الطيران والسياحة.
كما أعلن مسؤولون سعوديون أن شركتي "طيران الرياض" و"الخطوط السعودية"، الناقل الوطني الحالي للمملكة ومقرها في جدة، ستشتريان 78 طائرة "بوينج" من طراز "787 دريملاينر" المخصصة للمسافات الطويلة، إضافة إلى الإعلان عن خطط لبناء مطار جديد في الرياض من المقرر أن يستوعب 120 مليون مسافر سنويا بحلول عام 2030، في مقابل نحو 35 مليونا اليوم.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قرر صندوق الاستثمارات العامة السعودي، بالتعاون مع مجموعة "أبركرومبي أند كنت"، الاستثمار بنحو 50 مليون دولار في شركة "هابيتاس" المتخصصة في الفنادق الفاخرة، كما يجري محادثات لشراء أسهم في سلسلة فنادق "روكو فورتيه" البريطانية.
ويستثمر صندوق الاستثمارات العامة أيضًا بكثافة في شركات الألعاب الآسيوية، بما في ذلك الاستحواذ على حصص في "Capcom" و"Nexon" و"Nintendo". في وقت سابق من هذا العام، كما زاد صندوق الاستثمارات العامة حصته في شركة "Nintendo" إلى 8.26%.
كما اشترت مجموعة "Savvy Games Group" التابعة لصندوق الاستثمارات العامة حصة مليار دولار في "Embracer Group" العام الماضي.
وزاد صندوق الاستثمارات العامة السعودي من حصته في شركة "إلكترونيك آرتس - Electronic Arts"، لألعاب الفيديو، واشترى المزيد من الأسهم في شركات الألعاب الأمريكية المسؤولة عن سلسلة ألعاب كرة القدم الأشهر "FIFA" خلال الربع الأول من عام 2023.
وخلال عام 2022، أنشأ الصندوق شركة تابعة ومملوكة له بالكامل للاستثمار في الرياضة دوليًا وداخل المملكة، حيث تستعد المملكة لمزيد من الإنفاق الكبير في الرياضة، إذ عقد الصندوق صفقة لدمج بطولة "إل آي في" للغولف الجديدة مع جولة "بي جي إيه" الأمريكية، وأخرى لشراء نادي نيوكاسل الإنكليزي لكرة القدم، كما يدرس شراء نادي أوروبي آخر لكرة القدم.
ومن استثمارات الصندوق الأخرى أنه وقع مذكرة تفاهم مع الشركة الفرنسية ENGIE، وهي إحدى الشركات الرائدة لخدمات وحلول الطاقة منخفضة الكربون للإدارة المتكاملة للمرافق، بغية التطوير المشترك لمشاريع الهيدروجين.
ويجري الصندوق مفاوضات مع شركة بناء صينية لبناء أكبر مصنع للصلب بالعاصمة الرياض.
وصرحت مجموعة صناعة السيارات الكهربائية الأمريكية لوسيد بأنها تعتزم جمع حوالي 3 مليارات دولار من خلال طرح المزيد من أسهمها للبيع، مشيرة إلى أنها تتوقع جمع ما يقرب من ثلثي المبلغ من صندوق الاستثمارات العامة.
كما أنشأ صندوق الاستثمارات العامة السعودي وحدة جديدة برأس مال قدره 3 مليارات دولار للاستثمار في نطاق متنوع من الصناعات في جميع أنحاء العراق.
كل ذلك يظهر أنه على الرغم من الجهود التي يبذلها محمد بن سلمان، تماشيا مع رؤية 2030 لتقليل الاعتماد على الاقتصاد النفطي، لا تزال نسبة 93 ٪ من صادرات هذا البلد تتم من خلال بيع الطاقة، وأي عدم استقرار في سوق الطاقة، بالنظر إلى الظروف الحالية للاقتصاد العالمي، يمكن أن يتسبب في أضرار جسيمة لاقتصاد المملكة.
من الواضح أن الاقتصاد السعودي لا يزال يعتمد على النفط. وبحسب الإحصائيات المنشورة ووفقاً لظروف الاقتصاد العالمي، كان للسعوديين العام الماضي أفضل أداء اقتصادي بين دول مجموعة العشرين، لأن هذا البلد حصل على دخل ضخم بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط والطاقة في العام الماضي. فهل خسارة الصندوق الحالية تمثل انحرافاً في رؤية السعودية 2030، أم إنها مرحلة لا بد من المرور بها في درب صعب تخوض غماره هذه الرؤية؟
المصادر:
1- https://cutt.us/6fo0s
2- https://cutt.us/NDXzS
3-https://cutt.us/1H8wI