زيارة أميركية وإشارة داعشية
يشهد كيان الاحتلال الإسرائيلي جملة من الهزات الارتدادية، نتيجة فوالق سياسية وأمنية وعسكرية واجتماعية تضرب الأسس الملزمة التي وضعها بن غوريون، لأجل قيام «دولة إسرائيل» 1948 على أرض فلسطين العربية.
إن ما يشهده هذا الكيان الغاصب غير مسبوق وليس نتيجة ظروف أو أحداث معينة، بيد أن ما يجري على أرض فلسطين المحتلة، هو باختصار نتيجة متغيرات إستراتيجية أصابت البنية السياسية والعسكرية داخل الكيان الصهيوني، بعدما كُسرت القبضة الأمنية الإسرائيلية، وهشمت صورة إسرائيل التي لا تقهر، وجعلتها أمام احتمال مواجهة الانهيار الداخلي، أو الذهاب نحو حرب إقليمية توضع في خانة الانتحار.
لا غلو بالقول إن نجاح المقاومة اللبنانية بتحرير جنوب لبنان في آذار 2000، وتمكنها من إلحاق الهزيمة الإستراتيجية المدوية بإسرائيل 2006، وقهر الجيش الذي لا يقهر، واشتداد عضد المقاومة الفلسطينية في غزة، وصمود سورية الأسطوري، كلها عوامل شكلت الدافع لانقلاب الصورة في داخل إسرائيل وبشكل إستراتيجي.
لم تعد إسرائيل تلك القوة التي تخوض الحرب خارج فلسطين المحتلة، لتحقيق أهدافها العسكرية والسياسية في زمن قصير كما فعلت في حرب 1967، فإسرائيل عجزت عن تحقيق نصر في غزة المقاومة رغم فوارق العدد والعدة والعتاد، وهي اليوم أعجز ما تكون عن مهاجمة لبنان، لأن إسرائيل متيقنة من انعدام قدرتها تكرار الهزيمة التي منيت بها في حرب 2006، أما المفاجأة المنتظرة على جبهة الجولان السوري المحتل، فسوف تكون الحدث الفاصل للعدو الإسرائيلي.
إذاً الكيان الإسرائيلي بات محاصراً من الجولان ولبنان وغزة، وإذا ما أضفنا تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية مع الانتفاضة المسلحة في نابلس وجنين وبعض مناطق الضفة، بالتزامن مع تعاظم القوة الصاروخية لإيران الذي يؤرق العدو الصهيوني، كلها عوامل أفقدت ثقة الصهاينة في إمكانية استمرار ما يسمى بدولة إسرائيل أو العيش فيها بأمان، الأمر الذي أسهم في ارتفاع نسبة الهجرة المعاكسة نحو أميركا ودول أوروبا، وأيضاً هجرة رؤوس أموال اليهود المستثمرين من إسرائيل.
بات واضحاً للعيان أن إسرائيل تعيش حالة من عدم التوازن السياسي والأمني، نتيجة التظاهرات والاحتجاجات شبه اليومية المعترضة على قرارات حكومة نتنياهو الجديدة، والتي تضم تحالفات هجينة، إضافة إلى حالة تنذر بتفكك المجتمع اليهودي الداخلي، نتيجة سياسة التمييز العنصري بين اليهود أنفسهم، وإذا ما لاحظنا نسبة هروب المجندين من الخدمة العسكرية وامتناع بعضهم الالتحاق بوحداتهم العسكرية البرية أو الجوية، يتبين لنا عمق الهوة التي باتت تنحكم بما يسمى إسرائيل.
يائر لبيد وهو رئيس وزراء العدو الإسرائيلي السابق والرافض لحل الدولتين يقول: الاتفاق مع الفلسطينيين على أساس دولتين هو الشيء الصحيح لأمن إسرائيل، لأن التحديات التي يواجهها جيش الدفاع كل يوم مختلفة ومركبة، فبدءاً بعملية «كاسر الأمواج» التي تشغل القوات المقاتلة لجيش الدفاع، تتمثل في سحق الإرهاب في جنين ونابلس، ثم انتهاءً بالكفاح المتواصل ضد البرنامج النووي الإيراني وبث الإرهاب الإيراني في كل أنحاء الشرق الأوسط، إننا نحقق النجاحات في كل هذه الصراعات، بيد أن الصراع الداخلي لن ينتهي قريبا، وإذا استمرينا على هذا النحو فإن خطر تفكك إسرائيل سيكون داخلياً.
رئيس بلدية نيويورك السابق ورجل الأعمال اليهودي الأميركي الفاحش الثراء مايكل بلومبرغ، الداعم للكيان الصهيوني، أكد بمقاله الأخير في صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الأحد، رؤيته المستقبلية للكيان الإسرائيلي قائلاً: إن «إسرائيل تسير بسرعة نحو كارثة الانهيار».
أمام الأزمات والتحديات الأمنية الداخلية والخارجية، والعجز الفاضح في احتواء عمليات المقاومة الفلسطينية التي تهدد وجود الكيان الصهيوني، كان لا بد من البحث عن مخارج إنقاذية لهذا الكيان، ومنها المبادرة إلى مهاجمة المفاعلات النووية في إيران بحجة منع إيران من امتلاك القدرة النووية وتهديد إسرائيل، رغم معارضة أميركا لمثل هذا العمل الذي وصفه كبار المسؤولين في البيت الأبيض بالطائش وغير المحسوب، وخصوصاً أن اهتمامات أميركا حالياً منصبة على مواجهة روسيا والصين، وإطالة أمد الحرب في أوكرانيا لإنهاك روسيا وإلحاق الهزيمة بها.
الباحث في معهد هادسون، والتر راسيل ميد كتب في «وول ستريت جورنال» تقريراً مفصلاً جاء فيه: بعد متابعتي لمناقشات مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، بت مقتنعاً أن أميركا أصبحت أقرب للانخراط في حرب جديدة في الشرق الأوسط، رغم اعتراض ورفض معظم الديمقراطيين بما في ذلك كبار مسؤولي إدارة الرئيس جو بايدن، وختم تقريره بالقول: إن بنيامين نتنياهو يعمل جاهداً على توريط أميركا بحرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
وفيما البحث جار عن مخارج تنقذ العدو الصهيوني، وصل رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي إلى شمال شرق سورية، حيث التقى مع القوات الأميركية هناك بذريعة تفقد سير عمليات محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» داعش، ومراجعة إجراءات حماية القوات الأميركية من هجمات الطائرات المسيرة التي تطلقها فصائل مدعومة من إيران.
الخارجية السورية أدانت بشدة زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية إلى شمال شرق سورية، بعدما وصفت الزيارة بغير الشرعية، وأكدت أنها تمثل انتهاكاً صارخاً لسيادة سورية، وأن المجتمع الدولي يعرف جيداً أن «داعش» هو وليد غير شرعي للاستخبارات الأميركية، كما أن العمليات الإجرامية التي قام ويقوم بها «داعش» لم تستهدف يوماً القوات الأميركية وأدواتها، بل إن عملياتها الدموية نفذت ضد المواطنين السوريين الأبرياء.
تشهد سورية حالياً عودة بعض العرب إلى قلب العروبة وإن وصفت العودة بالإنسانية، كما أن تركيا رجب طيب أردوغان صارت تطلب التقارب مع دمشق بعد الإقرار بوحدة أراضيها واحترام سيادتها، وبناء لوساطة روسية تجري محاولات لجمع وزراء خارجية سورية وروسيا وإيران وتركيا، أما إيران فقد أعلنت عن تزويد سورية بنظام دفاع جوي متطور من طراز «خرداد» للتصدي لهجمات إسرائيلية متكررة، ولا شك بأن كل ما ذكر آنفاً يصب في مصلحة تعزيز الموقف والقدرة السورية في المواجهة، على حين إسرائيل تواجه خيار الانهيار أو الانتحار.
إن زيارة رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي مارك ميلي السرية إلى معسكر «الهول» شرق سورية، هي بمنزلة إعطاء إشارة لانطلاق ربيب المخابرات الأميركية «تنظيم داعش» الموجودة في معسكر الهول والبدء بعمليات تخريبية من جديد، كما حصل في منطقة السخنة السورية، وذلك بهدف إرباك سورية وحرمانها من قطف ثمار الانفتاح العربي الأخير، والتقارب التركي السوري المرتقب في موسكو، وذلك من أجل إنقاذ إسرائيل من زلازل داخلية مرعبة ومن عوامل خارجية باتت تهدد استمرار وجود إسرائيل في المنطقة.
المصدر: الوطن