اوستن يخرق الأعراف الدبلوماسية في العراق.. ماذا في الأبعاد؟
أثارت زيارة وزير الحرب الأميركي لويد اوستن الأخيرة للعراق جدلًا واسعًا، وأحدثت لغطًا كبيرًا في أوساط ومحافل سياسية واعلامية مختلفة، وأعادت طرح الكثير من التساؤلات والاستفهامات الواقعية والمبررة حول طبيعة الوجود والدور الاميركي في التأثير على مجمل الوضع العام في العراق من النواحي السياسية والامنية والاقتصادية، لا سيما في ظل ضبابية حجم ذلك الوجود وطبيعته ومساحاته وميادينه ومدياته وأهدافه.
والجدل الواسع واللغط الكبير حول زيارة اوستن ارتبط بجملة أمور، لعل من بينها:
ــ ان الزيارة كانت مفاجئة ولم تكن معلنة مسبقًا، وهذا ما أكدته وكالة "رويترز" الاميركية للانباء، باعتبارها كانت الوسيلة الاعلامية الاولى التي نقلت خبر الزيارة، ومما جاء في متن خبرها "ان وزير "الدفاع" - الحرب الاميركي لويد اوستن وصل الى العاصمة بغداد، يوم الثلاثاء، بزيارة غير معلنة، تهدف لابلاغ السلطات العراقية بموقف واشنطن في الذكرى العشرين على الغزو الأمريكي عام 2003". مضيفة "ان مسؤولا أميركيا اشترط عدم الكشف عن هويته، اكد أن الهدف من زيارة اوستن الى بغداد هو ابلاغ السلطات العراقية بأن اميركا باقية في العراق، وانها ليست مهتمة فقط بالجانب العسكري، لكنها ترغب بشكل كبير بإقامة شراكة استراتيجية كاملة مع الحكومة العراقية".
ــ وما يعزز حقيقة ان الزيارة مفاجئة وغير معلنة لعموم الاوساط والمحافل السياسية، هو أن من استقبل الوزير في احدى القواعد العسكرية التي يتواجد فيها الجنود الاميركيون، هو ضابط اميركي يحمل رتبة عالية، بينما من المفترض وفقا للسياقات والاعراف الدبلوماسية أن يكون في استقباله مسؤول عراقي، كأن يكون نظيره وزير الدفاع أو أحد كبار القيادات في الوزارة. وهذا يمثل اهانة للعراق وخرقا للاعراف الدبلوماسية فيه.
ــ زيارة وزير الحرب الاميركي للعراق، كانت جزءا من جولة شرق أوسطية شملت الاردن ومصر والاراضي الفلسطينية المحتلة، وبدا واضحًا أن من بين أبرز أهدافها تأكيد دعم واشنطن ومساندتها للكيان الصهيوني، والبحث عن أفضل السبل والوسائل من أجل تعزيز أمنه، لا سيما بعد سلسلة من عمليات المقاومة الفلسطينية خلال الأسابيع القليلة الماضية، والتي هزت اركان ذلك الكيان، الذي يعاني اوضاعا سياسية وامنية واجتماعية قلقة ومربكة جدا وانقسامات حادة للغاية.
ــ تتزامن الزيارة تقريبًا مع الذكرى السنوية العشرين لشن الولايات المتحدة الأميركية الحرب ضد العراق لاسقاط نظام صدام، والتي أدت الى احتلاله واخضاعه للهيمنة الاميركية، وادخاله في دوامة الفوضى والارهاب التكفيري.
ــ ليس هذا فحسب، بل إن زيارة الوزير الاميركي جاءت بعد سلسلة زيارات لعدد من وزراء خارجية دول المنطقة، من بينهم وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والايراني امير حسين عبد اللهيان، فضلا عن الامين العام لمنظمة الامم المتحدة انطونيو غوتيريش، اضافة الى انعقاد مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي في بغداد أواخر الشهر الماضي بحضور ومشاركة اغلب رؤساء برلمان الدول العربية.
ولا شك ان القضايا والملفات الاقليمية متداخلة ومتشابكة فيما بينها، ورغم أن الملف العراقي قد يبدو للبعض بعيدا عن ملفات اقليمية ودولية، إلا أن النظرة الاجمالية العامة تؤشر الى أن هناك أوجه ترابط كثيرة وكبيرة معه. ولعل الوجود الأميركي الواسع في المنطقة، الذي يربو على ثلاثين ألف جندي مع ترسانات أسلحة متطورة، يتوزعون على قواعد عسكرية ضخمة في عدة دول، منها الكويت والسعودية وقطر والبحرين والاردن والامارات وتركيا، ناهيك عن الوجود العسكري المرفوض في شمال شرق سوريا، لعل ذلك الوجود الكبير يعكس مدى وحجم وخطورة الأجندات والمشاريع الاميركية، التي تتمحور أساسًا حول صيانة وتقوية أمن الكيان الصهيوني، والعمل على محاصرة واضعاف جبهة المقاومة، والعراق يعد احدى البوابات والمفاتيح الرئيسية لتمرير تلك الأجندات والمشاريع والوصول الى الأهداف المطلوبة.
وقد نقلت بعض وسائل الاعلام عن مسؤولين اميركيين لم يفصحوا عن هوياتهم، قولهم وتأكيدهم أن واشنطن تخطط لبقاء طويل الأمد في العراق، وليس هناك أي فكرة لمغادرته، مهما كانت الضغوطات الموجهة اليها من بعض الاطراف.
وربما كانت التصريحات التي أطلقها وزير الاحتلال الاميركي اوستن من بغداد ضد ايران، بمثابة رسائل مبطنة لأكثر من طرف.
بيد أن ردود الافعال السلبية والرفض الواضح الذي أثارته زيارة الوزير الأميركي الذي كان قبل بضعه أعوام قائدًا للقيادة المركزية الاميركية الوسطى، تشير بطريقة او باخرى الى عمق المأزق الاميركي المتعدد الاوجه، الذي عكست جانبًا منه ظروف الزيارة وملابساتها، رغم أن الوزير التقى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ورغم ان المتحدث باسم الحكومة العراقية أكد في تصريحات صحفية أن الزيارة كانت معلنة على خلاف كل ما صرحت به ووصفته المصادر السياسية والاعلامية الاميركية والغربية، وحتى بعض العراقية.
فواشنطن لا تستطيع الصمود أو تجاهل العديد من الحقائق والمعطيات، التي تعكس بشكل أو بآخر حجم الرفض السياسي والشعبي العراقي الواسع لها، وربما تكون وقائع واحداث وتفاعلات الأعوام الأربعة الماضية قد اشرت الى جانب كبير من ذلك الرفض.
وزيارات وتحركات من قبيل زيارة وزير الحرب الاميركي وبالصورة التي تمت بها، من المستبعد جدًا أن تكون مخرجاتها ايجابية. وهو ــ اي الوزير ــ اذا كانت احدى مهامه التمهيد والتهيئة لزيارة السوداني المرتقبة لواشنطن، والتي تأخرت عن قصد وحسابات دقيقة من قبل الاخير، فان مثل ذلك التمهيد لم يكن موفقًا.
لن تستقيم العلاقات العراقية ــ الاميركية، ما لم يكن أصحاب القرار السياسي الأميركي في البيت الأبيض والدوائر السياسية العليا على قدر من الوضوح والمصداقية، ومغادرة فكرة جعل العراق ساحة لمواجهة الخصوم لأن التجربة أو التجارب السابقة أثبتت عقم وعبثية هذه الفكرة.
عادل الجبوري