الدبلوماسية الصامتة والتطبيع مع الجولاني !
خلال السنوات الأخيرة طرأ تحوّل ملحوظ في المواقف العالمية تجاه الحركات الجهادية المتطرفة. فبينما كانت معظم دول العالم تنظر سابقًا إلى جماعات مثل جبهة النصرة وبوكو حرام والقاعدة على أنها منظمات متطرفة إرهابية لا يُعمل معها، نشهد اليوم تطبيعًا تدريجيًا في ظل الدبلوماسية الصامتة وتبرير وجودها على الساحة العالمية.

خلال السنوات الأخيرة طرأ تحوّل ملحوظ في المواقف العالمية تجاه الحركات الجهادية المتطرفة. فبينما كانت معظم دول العالم تنظر سابقًا إلى جماعات مثل جبهة النصرة وبوكو حرام والقاعدة على أنها منظمات متطرفة إرهابية لا يُعمل معها، نشهد اليوم تطبيعًا تدريجيًا في ظل الدبلوماسية الصامتة وتبرير وجودها على الساحة العالمية. ولا يقتصر هذا التحوّل على تلك المنظمات فحسب؛ بل يعكس اتجاهًا أوسع نطاقًا لتتفاعل فيه الحكومات والمؤسسات مع قادة تلك المجموعات الجهادية أحيانًا تحت ستار البراغماتية. ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة للأمن العالمي والحرب الإيديولوجية والعواقب طويلة الأمد لمثل هذا التطبيع؟
يُعدّ ظهور هيئة تحرير الشام بزعامة "أبو محمد الجولاني" مجددًا كسلطة أمر واقع في سورية أحد أوضح الأمثلة على هذا التوجه. فمنذ سيطرتها على دمشق، أقامت علاقات دبلوماسية مع العديد من الدول تحت مسمى "القيادة العامة للبلاد" رغم أنها كانت تُصنّفها دول عديدة منظمةً إرهابية، وقد فرض نفسه رئيساً لسورية و ربما سيحظى باعتراف دولي ومساعدات مالية قادمة.
والمفاجأة الكبرى كانت رد فعل العالم تجاه ماحصل في سورية مرحبين بهم في أحسن الأحوال. فقد طغت المصالح الجيوسياسية على المخاوف الإنسانية إلى حد كبير. أما الدول التي خاضت حروباً ضد الإرهاب والقاعدة فهي نفسها الآن تتعاون مع أحد أشكالها تحت مبرر الاستقرار. ويبعث هذا التعاون برسالة خطيرة مفادها أن الجماعات المتطرفة قادرة على الصمود حتى بعد معارضتها، وأن تحظى في نهاية المطاف بالقبول كحكام شرعيين.
جهاز الاستخبارات البريطانية (MI6) ودعمه للجولاني
خلال سنوات الحرب كانت سورية ساحة للمعارك التي يتصارع فيها أطراف عديدة، وكانت فيها الفصائل الجهادية، بما فيها تنظيم القاعدة وبقايا داعش طرفاً أساسيًا في الصراع مع قوات النظام السابق، وبات معلوماً للجميع الدعم الجلي الذي كان يقدم من سلاح وخطط ميدانية ودعم لوجستي لتلك المجموعات وذلك عبر الحدود التركية. ولايخفى كل ذلك على أجهزة المخابرات الغربية التي أرسلت مندوبيها لسورية بحجج كثيرة لجمع بيانات هامة أو لتنفيذ أجندات على الأرض، واللافت في الأمر منذ يومين تتناقل وسائل الأخبار خبراً عن تسهيل جهاز الإستخبارات البرطانية (MI6) وصول الجولاني أو (أحمد الشرع) إلى دمشق وذلك بالتنسيق مع تركيا وبمباركة الولايات المتحدة، فبعد إعلان بريطانيا رفع عقوباتها عن وزارتي الداخلية والدفاع في حكومة أحمد الشرع أكد المختص بالشؤون الدولية د.أمير خنيفس أن: "المخابرات البريطانية ساعدت الشرع بالوصول إلى الحكم لهذا رفعت بريطانيا العقوبات عنه" وعن أسباب وخلفية هذا القرار أوضح خنيفس أن لبريطانيا " كان دور بكل ما حدث في سورية خلال الأشهر الاخيرة، من خلال سقوط نظام بشار الأسد ودعم أحمد الشرع بالوصول الى الحكم في دمشق وهو أمر معروف. وأما السبب الآخر هو التصريحات المسالمة التي أطلقها الشرع خلال الاشهر الأخيرة ومنذ استلامه الحكم، وكانت تصريحات مرضية ومطمئنة للغرب وتتطابقت مع ما كانوا يتوقعونه على الأرض".(1)
جهود المخابرات الغربية لإعادة تصوير الجولاني
يعمل جهاز المخابرات البرطانيةMI6 على استخدام الدبلوماسية السرية والصامتة واستراتيجيات إعلامية جديدة لإعادة تطهير صورة الجولاني الإرهابية، حيث يسعى لجعله لاعباً موثوقاً كما ذكرنا في المقدمة. هذه الخطوة تُنفذ أساساً بهدف إضعاف الجماعات التي تمثل المقاومة مثل حزب الله والجماعات الأخرى الموالية في سورية. وبالفعل يمكن أن يؤدي دعم MI6 والكيانات الغربية الأخرى للجولاني إلى خلق صراعات جديدة تُسهم في إضعاف جماعات المقاومة وحتى إلغاء فكرة العداء لإسرائيل وتهيئة الأجواء لتعزيز عملية تطبيع العلاقات بين دمشق وتل أبيب، وهذه هي المهمة الأساسية التي جاؤا به لينفذها بعد أن تم القضاء على الجيش السوري السابق وتدمير كل أسلحته الإستراتيجية التي كانت تشكل خطراً كبيراً على أمن إسرائيل.
دور الدبلوماسية السرية والدعم الإعلامي
إن دور الإعلام في تشكيل تصورات جديدة بالغ الأهمية أيضًا، فالطريقة التي تُصوّر بها وسائل الإعلام الدولية هيئة تحرير الشام و زعيمها الجولاني يمكن أن تؤثر على الرأي العام وعلى صنع السياسات. ففي بعض الحالات تحولت الخطابات الإعلامية إلى التركيز على البراغماتية بدلًا من الأيديولوجية، مُصوّرةً التعامل مع هذه الجماعات شراً لا بدّ منه بدلًا من كونه خطراً استراتيجياً، وقد يُسهم هذا التحول التدريجي لإزالة الحساسية الموجودة، مما يجعل عملية التطبيع تبدو أكثر قبولًا مع مرور الوقت.
إن إحدى جوانب هذه العملية وأدواتها هي الدبلوماسية السرية والدعم الإعلامي الغربي والعربي التابع له، والذي يُهيئ الأجواء لتطهير صورة الجولاني وتلميعها. وتسعى وسائل الإعلام الغربية إلى تقديم صورة إيجابية عن الجولاني لكونه أظهر قبوله للشروط الغربية، هذه المحاولات لا تعزز فقط الرأي العام المؤيد بل تسهم أيضاً في تيسير مسار المفاوضات غير الرسمية بين دمشق وتل أبيب. ولهذا لم يكن مفاجئًا أن تختار مجلة "تايم" الأميركية الشرع ضمن قائمة أكثر مئة شخصية سياسية عالمية تأثيرًا لهذا العام؛ فهذه هي المرة الأولى التي تُدرج فيها المجلة شخصية ذات خلفية إسلامية سابقة ضمن قائمة الزعماء المؤثرين عالميًا ويُظهر هذا التصنيف الجولاني وجهوده الدعائية لتقديم صورة جديدة عنه للعالم.(2)
المخاوف من استخدام الإرهاب وسيلة
مانسمعه الآن في أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة وعلى لسان الدول التي تتشدق بالحرية وحقوق الإنسان حول تنامي خطر الفصائل المتشددة والمقاتلين الأجانب في سورية هو دليل ثابت على قلقهم من هؤلاء الأشخاص الذين يملكون فكر إرهابي متطرف قد يصل بلدانهم كما وصلوا سورية. ولذلك كانت المطالب الأمريكية للشرع تؤكد على التخلص منهم وترحيلهم وعدم تقليدهم أي مناصب في قيادة الجيش، ومع ذلك وما يزيد الوضع خطورة وقلقاً هو عدم قدرة الجولاني على تنفيذ هذا المطلب خوفاً من انقلاب المقاتلين الأجانب عليه واغتياله. ولهذا السبب يزداد الخوف من وجودهم في سورية وانتشارهم بعد ارتكابهم مجازر بحق المدنيين العزل في الساحل السوري.(3)
الخلاصة
إن التواصل الدبلوماسي مع الجماعات المتطرفة يعتبر مخاطرة كبيرة من قبل القوى العالمية، لإن هذا يضفي الشرعية على أيديولوجياتها مما قد يُلهم حركات متطرفة أخرى لاتباع مسارات مماثلة. والدول التي اتخذت موقفًا صارمًا ضد التنظيمات الجهادية تُعيد النظر الآن في مواقفها وهذا يُقوّض سنوات من جهود مكافحة الإرهاب. فبينما يُجادل البعض بأن الدبلوماسية ضرورية للاستقرار، إلا أنها يجب ألا تأتي على حساب إضفاء الشرعية على التطرف. ويشير الاعتراف وإعادة دمجهم في سورية دبلوماسيًا إلى تحول أوسع نطاقًا قد تكون له عواقب وخيمة على الأمن العالمي.(4) وإذا فشل المجتمع الدولي في معالجة هذا التوجه المتنامي بنهج نقدي وحذر فإنه يُخاطر ليس فقط بتطبيع الجماعات الجهادية بل أيضًا بتمكين توسعها. وبدلًا من تخفيف المواقف بدافع المصلحة السياسية يجب على قادة العالم تأكيد التزامهم بمكافحة التطرف وضمان ألا يأتي التطبيع على حساب الأمن وحقوق الإنسان.
1- https://www.i24news.tv/ar/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/middle-east/artc-de668430
2- www.aljazeera.net/opinions/2025/4/22/اختيار-الشرع-ضمن-أكثر-100-شخصية
3- asharq.com/politics/119154/طرد-المقاتلين-الأجانب-من-سوريا
4-https://www.un.org/counterterrorism/sites/www.un.org.counterterrorism/files/unoct_pve_reference_guide_arabic.pdf