ماذا يعني تقديم الصين مبادرة للحل في أوكرانيا؟
بالتأكيد ليس لدى الصين وهم بأن هناك فرصاً حقيقية لتسوية الصراع الدائر في أوكرانيا بين روسيا وحلف الناتو بالطرق السياسية، وأن الأمر يتوقف على مبادرة للحل السياسي ولو كان وراءها ثقل الصين، ولا أن ما مرّ من الحرب كان كافياً لإنضاج مواقف الطرفين لمنطقة وسط تتيح التوصل إلى تسوية، وبالتأكيد ليست الصين برومانسية التوهّم بأنها طرف محايد في جوهر النزاع الذي يدور من الجانب الروسي تحت شعار إسقاط القطبية الأحادية، وإنهاء مشروع الهيمنة الأميركية على العالم. فالصين تعلم تشخيص الناتو لها كمصدر خطر أول، وتصنيفه لروسيا تحدياً عسكرياً وأمنياً، وأن روسيا تخوض الحرب بالنيابة عن كل الدول المستقلة التي تسعى لتقليص مدى التسلّط الغربي على السياسة الدولية، والصين في طليعة هؤلاء، فماذا تريد الصين من مبادرتها والترويج الواسع تمهيداً لإطلاقها.
خلال الشهور الماضية ظهرت حقائق واضحة في مسار الحرب، أهمها أن التنافس العسكري بين روسيا وحلف الناتو يدور حول سلاحين رئيسيين حاسمين في الحرب، هما الطائرات المسيّرة، والصواريخ البالستية الدقيقة، وأن روسيا في هذين المجالين تملك تفوقاً حاسماً على ثلاثة مستويات، الأول هو امتلاك فائض من المخزون في هذين السلاحين، رغم كل الدعاية الغربية عن شح لدى روسيا دفعها للاستعانة بإيران والصين وكوريا الشمالية، والثاني هو امتلاك روسيا لخطوط إنتاج وتوريد وإمداد سلسة من المصانع إلى خطوط القتال مقابل اعتراف الغرب بمشاكل عديدة تعترض طريق قدرته على سد الفجوات التي تطرحها الفوارق بين قدرات الإنتاج وحاجات الميدان، ومشاكل النقل والإمداد على خطوط طويلة مهدّدة بالاستهداف، ما استدعى البحث عن بدائل من نوع الاستعاضة عن السلاحين الصاروخي والمدفعي بمدافع الدبابات، والثالث هو الارتياح الروسيّ لما لديه على مستوى الكادر البشريّ القادر على تشغيل المعدات التقنية الدقيقة التي ترتبط بها هذه الأسلحة وخصوصاً الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة، وقدرته على مزاوجة التدريب القريب من الجبهة والزجّ بالمقدرات الجديدة إلى خطوط العمل الميداني، بينما عمليات التدريب التي يجريها حلف الناتو لحساب أوكرانيا على الأسلحة الجديدة تستهلك وقتاً طويلاً وتجري بعيداً عن الجبهة وفي ظروف متفاوتة بين البلدان التي تستضيف هذه التدريبات.
تدرك الصين أنّها تتعرّض مع إيران لحملة مركزة من الغرب تحت عنوان اتهامهما بتقديم الدعم العسكري لروسيا، وذلك لجعل ملف دعم روسيا من ملفات التفاوض على قضايا خلافية أخرى مع كل من الصين وإيران، والملفات الخلافيّة واضحة وجدية وموضوعة على الطاولة، وعبر الترغيب والترهيب تريد واشنطن انتزاع توقيع بكين وطهران على وثيقة تنص على الامتناع عن تقديم أي دعم لروسيا في الحرب، يعني مجرد توقيعها من بكين وطهران إذلالاً لهما وتثبيتاً للهيمنة الأميركية، ولذلك رد الصينيون على الاتهامات الأميركية بالقول إن أميركا التي توجه الاتهامات للصين بدعم روسيا عسكرياً، وهي اتهامات باطلة، هي أميركا نفسها، أكبر مورد للسلاح إلى حرب اوكرانيا، وهي بالتالي فاقدة للأهلية الأخلاقية لتقييم شكل تعامل الصين مع الحرب، وتبنيها لموقف يدعو لوقف الحرب واعتماد الحل السياسي لقضايا النزاع.
طوّر الصينيون ردهم الى مستوى تحويل مضمونه الى مبادرة تؤكد موقفهم وموقعهم من الحرب، لجهة الدعوة لحل سياسي يقوم على إيجاد إطار دولي للبت بقضايا النزاع الحدودي بين أوكرانيا وروسيا من جهة، ويقدم الضمانات التي تطمئن روسيا في أمنها القومي والاستراتيجي من جهة موازية، لكنها مبادرة تبدأ بالدعوة لتخفيض مستوى النزاع، من خلال التزام الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي لا تشكل طرفاً مباشراً في الحرب الى الامتناع عن تقديم أي مبيعات سلاح أو هبات عسكرية إلى أي من طرفي النزاع الروسي والأوكراني. وهذا يعني وضع التزام الصين القائم فعلاً مقابل التزام مطلوب من كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا، وهو ما تعلم الصين أنه لن يحصل، ما يعني انتقال زمام المبادرة السياسي في توجيه الاتهام بالتورّط في الحرب الى ضفة الصين بحق أميركا وفرنسا وبريطانيا، وامتلاك الصين الحق بفعل المثل طالما أن مبادرتها قد رفضت.
ناصر قنديل