جرائم أميركا عبر العصر.. "دراسة توسكيجي" إحداها
لا يختلف تاريخ أمريكا وحاضرها، إن من حيث السلوك العنصري الذي توارثه العديد من قادتها عن سلافهم، ونراه غالبًا وبقوّة في الكثير من نواحي الحياة المدنية والسياسية فيها، أو لجهة اختلاقها حججًا وذرائع مختلفة للتسلط على الدول والشعوب واضطهاد بعضها واستعباد أخرى (وان اختلفت الأساليب حاليًا) وصولًا إلى معاقبتها وحصارها وتجويع أهلها، كما يحصل حاليًا مع سوريا، التي كانت وما زالت تتعرض لعقاب جماعي من قبل الولايات المتحدة تحت عنوان "قانون قيصر" بالرغم من رفع العقوبات عنها شكليًا وجزئيًا لمدة 180 يومًا تحت مزاعم تسهيل وصول المساعدات الانسانية بعد تأثرها بزلزال مدمر في 6 شباط/ فبراير الماضي خلّف مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمشرّدين.
كلّما غصنا في صفحات هذا التاريخ، نجد قصصًا وروايات مهولة ومؤلمة ـ يندى لها جبين الانسانية تفوق سابقاتها. وإحداها حكاية الدراسة التي أجرتها خدمة الصحة العامة في الولايات المتحدة على مدار 40 عامًا على مجموعة من الرجال السود المصابون بمرض الزهري، والذين تمت معاملتهم كخنازير غينيا (حيوان صغير لبون من القوارض يتم استخدامه لإجراء بحوث طبية لتطوير العقاقير الطبية).
ما هي قصة هذه الدراسة وما علاقتها بالأمريكيين "السود"؟
بدأت التجربة التي تسمى دراسة "توسكيجي" في خريف عام 1932، بظهور منشورات في مدينة توسكيجي في ولاية ألاباما الامريكية ــ كان يوجد فيها أعلى معدل لمرض الزهري في البلاد في ذلك الوقت ـــ تعدّ "الملوّنين" بمعاملة خاصة إن خضعوا للفحوصات والاختبارات اللازمة.
كانت هذه المنشورات تتضمن العبارات التالية: اختبار الدم المجاني، علاج مجاني، عن طريق إدارة الصحة بالمقاطعة وـطباء الحكومة.. قد تشعر بصحة جيدة ولا يزال دمك سيئًا، تعال واحضر جميع أفراد عائلتك".
على اثر ذلك، قام مئات الرجال جميعهم من السود والعديد منهم فقراء ــ بالتسجيل، وظن بعضهم أنهم سيُعالَجون من الروماتيزم أو أوجاع المعدة السيئة، وما شجعهم على ذلك هي الحوافز التي وضعت للمشاركة في البرنامج، حيث وُعد الرجال بالنقل المجاني من وإلى المستشفيات، وبوجبات غداء ساخنة مجانية، وأدوية مجانية لأي مرض غير مرض الزهري، ودفن مجاني بعد إجراء تشريح الجثث في حال توفي أحد المرضى.
ولهذا، جندت الدراسة حوالي 600 رجل أسود، تم تشخيص 399 منهم بمرض الزهري، فيما وضع الـ201 الآخرون تحت المراقبة كونهم لا يحملون المرض.
الى هنا قد تبدو القصة عادية، لكن ما لا تعرفونه أن هؤلاء الرجال تحوّلت أجسادهم لاحقًا الى حقل تجارب دون اعلامهم بالأمر، بعدما امتنعت الممرضات عن إخبارهم بأنهم سيصبحون جزءًا من "دراسة توسكيجي" لمرض الزهري غير المعالج عند الذكور الزنوج، وهي تجربة سرّية أجرتها خدمة الصحة العامة الأمريكية، لدراسة تطور المرض التناسلي القاتل للأشخاص الذين لم يتلقوا العلاج بعد.
ما يثير الصدمة أن الباحثين، لم يحصلوا أبدًا على موافقة واضحة وصريحة من الرجال بحقيقة الدراسة، والأنكى أنهم لم يخبروا الأشخاص المصابين بمرض الزهري أنهم يعطونهم العلاج المناسب، ولكنهم كانوا ببساطة يخضعون للمراقبة حتى ماتوا، وبالتالي جرى فحص أجسادهم بحثًا عن مسببات المرض فقط.
ماذا عن شهادات الناجين؟
في الواقع تضمنت شهادات الناجين وفقًا لكتاب جيمس إتش جونز "الدم السيئ: تجربة توسكيجي للزهري"، حقائق مآساوية مذهلة، أبزرها ما جاء على لسان أحدهم ويدعى ذكر تشارلز بولارد، أحد آخر الناجين الذي قال إنه سمع أن الرجال يتلقون فحوصات طبية مجانية في مدرسة محلية. يتذكر بولارد بغصّة، تلك الأيام السوداء بالقول "لذلك ذهبت وأخبروني أن دمي سيئ. واضاف "كل ما كنت أعرفه هو أنهم استمروا في القول إنني مصاب بدم فاسد ـــ لم يذكروا لي مرض الزهري مطلقًا، ولا مرة واحدة، لقد كانوا يخدعونني باستمرار منذ ذلك الحين. وقد أعطوني منشطًا للدم".
هل تمت معالجة الرجال بعد اكتشاف علاج لمرض الزهري؟
عمليا، عندما بدأت الدراسة، لم يكن علاج مرض الزهري فعالًا، وغالبًا ما كان خطيرًا ومميتًا. ولكن حتى بعد اكتشاف دواء البنسلين واستخدامه كعلاج للمرض، لم يتم تقديم المضاد الحيوي للرجال في دراسة توسكيجي.
الكارثة الكبرى، أنه كان من المتوقع في الأصل أن تستمر الدراسة ستة أشهر، إلا أنها امتدت لمدة 40 عاما. ما يبعث على الصدمة، أن الأطباء المحليين، طلبوا المساعدة في الدراسة وليس علاج الرجال، وهو ما ذكرته مراكز السيطرة على الأمراض في جدول زمني للتجربة التي كشفت أنه "تم اتخاذ قرار بمتابعة الرجال حتى الموت".
ليس هذا فحسب، عينّ هؤلاء الاطباء "يونيس ريفرز" وهي ممرضة محلية لتعمل كموظفة، وقناة اتصال بين الباحثين والرجال. وتبعًا لذلك، كانت الممرضة تحتفظ بسجلات الرجال وتقودهم إلى الأطباء الحكوميين عندما يزورون المجتمع المحلي، فضلًا عن قيامها بتحديد مواعيد لهم لدى الأطباء، وفي إحدى المرات اصطحبت الممرضة رجلاً إلى طبيب خاص للتأكد من عدم تلقيه العلاج.
كيف تم افتضاح أمر تلك الدارسة الجريمة؟
في عام 1945 واستنادًا للجدول الزمني لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، تم "قبول البنسلين كعلاج مفضل لمرض الزهري"، بعدها أنشأت خدمات الصحة العامة الأمريكية ما أسمته "مراكز العلاج السريع" لمساعدة الرجال المصابين بمرض الزهري ــ باستثناء الرجال في دراسة توسكيجي ـــ.
اللافت أنه في عام 1966، أثار محقق في خدمة الصحة العامة ويدعى "بيتر بوكستون"، مخاوف بشأن الدراسة، حيث كتب إلى مدير قسم الأمراض التناسلية في الولايات المتحدة حول أخلاقيات التجربة. لكن الوكالة تجاهلت مخاوف بوكستون.
غير انه، في نهاية المطاف، سرّب المحقق معلومات حول الدراسة إلى مراسل وكالة Associated Press يدعى Jean Heller، الذي وصفها بعد سنوات بأنها "واحدة من أخطر انتهاكات حقوق الإنسان التي يمكنني تخيلها". وفي 26 تموز/ يوليو 1972، ظهرت قصة هيلر على الصفحة الأولى من صحيفة "نيويورك تايمز" وكشفت أن الرجال قد تركوا عمدًا دون علاج لمدة 40 عامًا.
وبناء على ذلك، تم إيقاف الدراسة أخيرًا، وفي العام التالي عقدت لجنة فرعية تابعة للكونغرس جلسات استماع حول تجربة "توسكيجي".
وفي العام 1973، تم رفع دعوى قضائية جماعية نيابة عن الرجال في الدراسة، وكان بولارد من ضمنهم. حيث تم التوصل إلى تسوية خارج المحكمة بقيمة 10 ملايين دولار في القضية. وتكفيرًا عن جريمتها أفاد مركز السيطرة على الأمراض أن "حكومة الولايات المتحدة وعدت بتقديم مزايا طبية مدى الحياة وخدمات الدفن لجميع المشاركين الأحياء".
في المحصلة ومع أنه لا توجد قوة على الأرض يمكنها أن تعيد الأرواح التي أزهقتها الحكومة الامريكية، والألم الذي سببته لهؤلاء الرجال الذين عانوا من العذاب والكرب والالم لسنوات، نكتفي بعرض اعتذار الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلنتون في 16 أيار/ مايو 1997، للناجين الثمانية المتبقين من التجربة (للدلالة على فظاعة وحجم الجريمة التي قامت بها امريكا في تلك الفترة) حيث كان قال "ما فعلته حكومة الولايات المتحدة كان مخزيًا.. لقد كان ذلك بمثابة اعتداء على التزامنا بالنزاهة والمساواة لجميع مواطنينا".
د. علي دربج - باحث واستاذ جامعي