باخموت: المعركة الفاصلة والتراجع المستحيل
– تدور معارك مدينة باخموت منذ شهور ببطء شديد وضراوة عالية، ولم يعُد مهماً النقاش حول أهمية المدينة الاستراتيجية، سواء بصفتها عقدة وصل الطرقات الكبرى بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، أو مفتاح السيطرة على منطقة دونباس، بعدما صار محسوماً أن القوات الروسية تضع نخبتها القتالية إلى جانب قوات فاغنر بهدف السيطرة على المدينة، وتقابلها القوات الأوكرانية بقتال مستميت لعشرات آلاف جنود القوات الخاصة، وتتمركز من حول معركة المدينة وصولاً الى الخطوط الخلفية في القوات الروسية والأوكرانية وما تحتويه من مئات المدافع وراجمات الصواريخ، وطلعات القوات الجوية القتالية والمسيّرة للفريقين في أجواء المدينة وما حولها، وصار واضحاً أن أحداً لن يتراجع للآخر ويصرف النظر عن معركة المدينة، بصورة تجعلها أم المعارك في أوكرانيا.
– لم تنفع النصائح الغربية في إقناع القيادة الأوكرانية بالتخلي عن باخموت، ولا أدّى التقدم الروسي الى إقناع القيادة الأوكرانية بأن الثبات في المدينة ميؤوس منه، ووفق الخبراء تتشكل في المدينة أضخم التحصينات الأوكرانية، ما يجعل التقدم كل متر بمتر بكلفة عالية اختصاراً للمشهد من الزاوية الروسية، وهذا يعني عملياً أنه كما كانت معارك ماريوبول في أول الحرب علامة على وجهة المرحلة الأولى منها، وتأمين تدحرج انتصارات شواطئ بحر آزوف والبحر الأسود لصالح روسيا، قبل أن تستعيد القوات الأوكرانية زمام المبادرة في جبهتي خاركيف وخيرسون وتفرض على القوات الروسية الانسحاب، تبدو معركة باخموت بتراضي الطرفين هي المنازلة الحاسمة التي سيكون لمن يربحها فرصة التقدّم السريع بعدها نحو النصر، ونجاح القوات الأوكرانية في الصمود ومنع النصر الروسي في باخموت، سوف يكرّس موازين قوى متعادلة، لا يمكن للروس إنكارها. وهذا يعني فتح مسار تفاوضي على قاعدة ميزان قوى راجح لصالح أوكرانيا، رغم صعوبة الحديث عن شعار إخراج القوات الروسية من كل الأراضي الأوكرانية الى حدود عام 2014، لكن اندحار القوات الأوكرانية سوف يعني أن ما سقط بيد الروس ليس باخموت، بل أوكرانيا بكاملها، حتى لو لم تدخلها القوت الروسية.
– المعركة الاستراتيجية الفاصلة محطّة معروفة في كل الحروب، حيث يتمسك الطرفان المتقابلان بنقطة مفصلية في الجغرافيا، سرعان ما تتحوّل إلى نقطة معنوية، تواكبها مواقف معلنة وقرارات عملية تدفع الحرب باتجاه يربط مصيرها بمصير هذه المعركة. وهكذا هي باخموت اليوم، كما كانت معركة العلمين في الحرب العالمية الثانية، والقصير أو حلب في الحرب السورية، ومعارك بنت جبيل وعيتا ومارون في حرب 2006، وواقعياً لا تكون ميزات النقطة التي تقع فيها المعركة الفاصلة هي التي قرّرت لها هذه الصفة، بقدر ما يكون الإصرار السياسي على المعنوي سبباً في العناد العسكري بقبول الزجّ بأهم المقدرات في معركتها، وكلما كبرت الخسائر في خوض المعركة زادت قيمتها الى حد يجعلها موازية لحجم التكلفة التي ترتبت عليها، وليس لأهميتها بذاتها بمعزل عن هذه التكلفة، ويصير العناد السياسي والعسكري تعبيراً عن عدم القدرة على التسليم بهدر هذه التكلفة العالية، والمضي قدماً، على طريقة المقامر الذي يخسر ماله وتصبح قيمة اشتراكه في اللعبة بحجم ديونه وخسائره، أملاً بتعويضها كلها بربح جولة اتفق الجميع على تسميتها بالفاصلة، يربح اللعبة كلها من يربح هذه الجولة، وهكذا تبدو باخموت اليوم.
– يجمع خبراء الغرب على أن النصر الروسي في باخموت حتميّ، ولذلك نصحوا الأوكرانيين بعدم تحويلها الى مقبرة للجيش الأوكراني، بحيث يصبح محسوماً مصير كل المعارك اللاحقة مع إعلان الجيش الروسي إكمال السيطرة على باخموت، ويصرخ القادة الأوكرانيون اليوم طلباً لمزيد من الذخائر الصاروخية والمدفعية الذكية، ويرد قادة الغرب أن مخزونهم نفد، ويصرخ القادة الأوكرانيون انهم يحتاجون فوراً إلى طائرات مقاتلة لتغيير الموازين، ويتردّد الغرب في تقديم طائراته وقوداً لمعركة محسومة الخسارة.
– ايام أو أسابيع وتصبح باخموت في قبضة الجيش الروسي، وتكون حرب أوكرانيا ولو استمرّت في جبهات أخرى، قد حسمت، لأن من خسر باخموت لن يستطيع النصر في سواها.
ناصر قنديل