الغرب السياسي.. بيت منقسم
هناك عداء ألماني – بولندي يدور في قلب أوروبا، على الرغم من استضافة بولندا لأهم تواجد عسكري ألماني منذ الحرب العالمية الثانية، كجزء من عمليات الناتو في جناحه الشرقي. وفي غضون ذلك، شنت وارسو حملة قانونية ضد برلين من أجل تعويضات زمن الحرب، كما يعتبر الخطاب البغيض حول الدور البارز لبرلين في الاتحاد الأوروبي الموصوف بـ “الرايخ الرابع” جزءا من هذا الخلاف، وعلى الرغم من أن الخلاف يدور حول التاريخ إلا أن له آثارا جيوسياسية عميقة.
كُتب الكثير عن بولندا التي أصبحت الآن “قوة صاعدة”، ويمكن ملاحظة إلى أي مدى كانت وارسو تحلم بأن تصبح المعقل الرئيسي للوجود العسكري الأمريكي في أوروبا الشرقية، من خلال التدريبات العسكرية لـ “مناورات الدفاع عن أوروبا 2020″، على سبيل المثال.
من الواضح أن صراع اليوم المجاور في أوكرانيا يناسب مثل هذه التطلعات بشكل جيد. وعلاوة على ذلك، يبدو أن واشنطن مسرورة بالترويج لطموحات وارسو المتعلقة بالهيمنة الإقليمية كوسيلة لمواجهة برلين. ودليل آخر على مثل هذه التطلعات هو التقدم الأوكراني – البولندي الملموس نحو اتحاد كونفدرالي الذي يتضمن مشاريع قوانين إلى البرلمان في كل من بولندا وأوكرانيا تمنح كل منهما وضعاً خاصاً لمواطني الدولة المجاورة. لكن من المفترض أن تواجه مثل هذه الخطط البولندية الطموحة تحديات هائلة، بما في ذلك اليمين المتطرف المعادي لبولندا في أوكرانيا. وعلى أي حال، قد يعني التحالف البولندي الأوكراني الناشئ تحولاً نحو الشرق بالنسبة لمركز الثقل الجيوسياسي للكتلة الأوروبية، والموجود حالياً في فرنسا وألمانيا، وسيكون ذلك بمثابة ضربة للحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي. وفي هذا الشأن من المستحيل الحديث عن الأزمة في أوروبا الشرقية اليوم دون معالجة القضية الجيوسياسية المتمثلة في توسع ناتو، وهي جزء من سياسة الاحتواء المزدوج لواشنطن، بالإضافة إلى مسألة المصالح الجيواقتصادية الأمريكية المتعلقة بالطاقة.
ظهر “عدم الانحياز” الآن في الخطاب والسياسة الأوروبيين، بقيادة فرنسا وألمانيا، فالأولى هي القوة النووية الوحيدة في أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والثانية هي الاقتصاد الأكبر في القارة. ومن الضروري الإشارة في هذا الخصوص إلى أنه في الآونة الأخيرة، في عام 2021، كان مشروع خطوط أنابيب “نورد ستريم 2” المتوقف حالياً قد اكتمل، فمشروع شبكة نورد ستريم بالكامل، الذي تجاوز بولندا وأوكرانيا لأول مرة لتوصيل الغاز الروسي مباشرة إلى أوروبا الغربية، عارضته منذ البداية الولايات المتحدة، كما هو معروف على نطاق واسع، وكذلك بولندا وأوكرانيا. ومع ذلك، قاومت برلين الضغوط الأمريكية حتى تم تفجير خطوط الأنابيب.
إن النقطة المهمة هي أن ألمانيا، والقوى الأوروبية الرئيسية، لم ترغب أبداً في معاداة روسيا، وذلك لأن التعاون الروسي الأوروبي في مجال الطاقة كان دائماً مسألة استراتيجية، كما كانت خطوط أنابيب “نورد ستريم” التي تم تفجيرها هي التجسيد الأكثر وضوحاً لتلك الإرادة. في حزيران 2021، كان وزيرا خارجية بولندا زبيغنيو راو، وأوكرانيا دميترو كوليبا، ينسقان مواقفهما المعارضة لمسألة خطوط أنابيب “نورد ستريم 2″، حيث اعتبرها كلاهما “تهديد” لأمن الطاقة الأوروبي، بينما في الواقع كان من الممكن تجنب الزيادات الهائلة في أسعار الطاقة التي أثرت على أوروبا منذ عام 2021 في حال تم تشغيل مشروع “نورد ستريم 2” الذي تم تفجيره. ومنذ البداية، خدمت أزمة الطاقة الأوروبية المصالح الأمريكية بشكل جيد.
ربما كانت قضية الطاقة، بالإضافة إلى حرب الدعم التي شنها الرئيس الأمريكي جو بايدن ضد أوروبا بمثابة دعوة للاستيقاظ للعديد من القادة الأوروبيين، وبالتالي ساهمت في إعادة تنشيط مفهوم “الاستقلال الاستراتيجي” الذي نوقش كثيراً الآن. لكن يبدو أن القادة البولنديين يرون الأشياء بطريقة مختلفة، فلدى بولندا، التي لا يوجد فيها مركز توزيع غاز خاص بها، خطط كبيرة لخط أنابيب البلطيق الذي يربط ساحلها بالنرويج، وبالتاليسيصبح مركزاً رئيسياً للغاز في أوروبا. وفي هذا الخصوص وافقت بولندا في 4 أيار الجاري على مشروع قانون من شأنه أن يعزز الحماية العسكرية للبنية التحتية للطاقة في البلطيق، من خلال السماح لجيشها باستهداف أي سفينة معادية تستهدف أنبوب البلطيق. بعد قطع إمدادات الغاز الروسي، تعتمد البلاد الآن على الواردات من النرويج. تجدر الإشارة إلى أن خط الأنابيب المذكور أعلاه، الذي يمتلك في الواقع سعة أقل بخمس مرات من “نورد ستريم 2 “، ليس بديلاً مثالياً على أي حال.
في سياق متصل كتب جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية والأستاذ بجامعة شيكاغو وعالم السياسة، والذي يعتبر من أكثر مؤيدي مدرسة الفكر “الواقعية” في العلاقات الدولية، عدة مرات حول كيف أن النخب السياسية للقوى الأوروبية الرئيسية لم يكونوا في الحقيقة على استعداد لمتابعة أجندة واشنطن في تطويق، واحتواء موسكو كما يتضح من تصريحات الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، و أفعال المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل. وفي هذا الإطار يبرهن ميرشايمر أن الصراع الحالي في أوكرانيا نتج في الغالب عن توسع الناتو، وعن “إستراتيجية الولايات المتحدة لإخراج أوكرانيا من فلك روسيا ودمجها في الغرب”.
أثناء إلقاء محاضرة له في حزيران 2022، سُئل ميرشايمر، وهو أمريكي، عن سبب عدم قيام الأوروبيين بالتعبير عن مواقفهم في ذلك الوقت إذا كان الأمر كذلك بالفعل، وكان جوابه الشهير بأن “الأوروبيين يرقصون على لحننا، نحن ندير الناتو. هذه مسألة قوة”. كما أنه سخر من فكرة “صنع القرار المشترك” داخل منظمة الأطلسي، حيث كان منطقه أن أوروبا تعتمد كثيراً على الولايات المتحدة من أجل الأمن لتكون قادرة على أن يكون لها صوت، إلا أن الأمور زادت سوءاً منذ شباط 2022، فالمحادثات الأوروبية حول إعادة التسلح تدور حول معالجة هذا الواقع المزعج أيضاً. ومع ذلك، فإن سعي وارسو للهيمنة الإقليمية يعتمد بشكل كبير على الوجود العسكري والقوة الأمريكية. وفي هذا السياق، يمكن في الواقع لفاعل محلي مثل بولندا أن يجعل نفسه متاحاً لاستخدامه كوكيل أمريكي، و زيادة التوترات في القارة، ويبقى رؤية ما يمكن أن يكسب منه. على أية حال، فإن الغرب السياسي الذي تقوده الولايات المتحدة اليوم هو بيت منقسم.
المصدر: البعث