مصر… سيناريوهات لخفض معدلات الاكتظاظ السكاني
وسط المتغيرات التي طرأت على الساحة المصرية خلال السنوات القليلة الماضية، ومع وجود السياسات المناسبة لإبطاء النمو السكاني، أشار تقرير البنك الدولي، إلى أنه بحلول عام 2050، يمكن أن يصبح عدد السكان في مصر 141 مليون نسمة بدلاً من 160 مليون، وهو الرقم الذي كان متوقعاً. وللإشارة، فإن عدد سكان مصر حالياً يبلغ قرابة 105 مليون نسمة.
بحسب التقرير الذي أطلقه البنك الدولي بعنوان “تحقيق المكاسب الديمغرافية في جمهورية مصر العربية: اختيار وليس مصير”، فإن تباطؤ النمو السكاني يمكن أن يستخدم لتعزيز الاقتصاد، مضيفاً أن العائد الاقتصادي لبلد، يمكن أن يحدث في غضون فترة تتراوح من 15 إلى 20 عاماً، عندما يمر هذا البلد بالتحول الديموغرافي الناتج عن الانخفاض السريع في معدل الوفيات، والذي يعقبه انخفاض سريع في الخصوبة. وقد تم التأكيد على أن هذا التحول سيؤدي إلى أن تصبح الأسر أصغر حجماً وأكثر صحة، فضلاً عن إمكانية تعليم الفئة الشبابية وتمكينها لدخول سوق العمل ومواءمة الطلب الديناميكي على العمالة.
بموجب هذا السيناريو، يمكن أن تشهد مصر وفورات كبيرة جداً في الإنفاق العام بحلول عام 2030، وتحديداً في الإسكان والتعليم والرعاية الصحية، والتي يمكن توجيهها إلى مجالات أخرى من الميزانية الوطنية. ومن خلال تحليل السيناريوهات المختلفة لانخفاض معدلات الولادات، يقدر البنك الدولي نمو الناتج المحلي الإجمالي التراكمي المحتمل لمصر بين عامي 2020 و 2030 بما يتراوح بين 284.9 مليار جنيه إسترليني، و 569 مليار جنيه إسترليني. ومع ذلك، فإنه يحذر من أن الاقتصاد قد يخسر 103.5 تريليون جنيه إسترليني في الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2020 و 2050، إذا لم يتم اتخاذ التدابير المناسبة لتسريع سيناريو انخفاض معدل الولادات.
يعتقد خبراء ماليون أن مصر خسرت مكاسب اقتصادية كبيرة بسبب تضييق فرص توزيع العوائد الديمغرافية بعد أن كانت البلاد تتبع مسار انخفاض معدل الخصوبة وزيادة نسبة السكان في سن العمل، لكنها بسبب ارتفاع نسبة الإعالة، انحرفت عن هذا المسار وألحقت الضرر باقتصادها”بما يقدر بنحو 150 مليار جنيه في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2019.
وبين عامي 1988 و2008، أدت سياسات تعزيز تنظيم الأسرة وتمكين المرأة إلى انخفاض في عدد الولادات لكل امرأة من 4.5 في عام 1988 إلى 3.0 في عام 2008. لكن هذا الاتجاه التنازلي توقف، وبحلول عام 2014 زاد عدد الولادات لكل امرأة إلى 3.5، حيث يرى الخبراء إن هذا التغيير ليس مقلقاً فحسب، بل يُلاحظ فقط في عدد قليل من البلدان في العالم.
بعد عام 2005، ارتفع عدد الأطفال في أسر النساء المتعلمات والأكثر ثراء في المدن، وهذا يتناقض مع الاتجاهات العالمية السائدة. وعلى الأرجح أن الزيادة في عدد أطفال الأسر، هي السبب الرئيسي للتغيير في معدل الولادات، والذي ينبغي أن يكون أيضاً مدخلاً هاماً في تحديد أولويات السياسة الديموغرافية.
يشار إلى أن الزيادة الناتجة عن معدل الولادات في عام 2014، أدت إلى ما يسمى بـ “طفرة الشباب”، حيث كان 33.2٪ من السكان دون سن 14 عاماً. وفي الوقت نفسه، كان 5.1٪ من السكان يبلغون من العمر 60 عاماً أو أكثر، ما أدى إلى زيادة نسبة الإعالة من 59.6٪ إلى 61.8٪ بين عامي 2010 و 2014.
لتغيير هذا الوضع، توصى الحكومة المصرية بزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل، ومنع الزواج المبكر، وتعزيز برامج الحماية الاجتماعية، وتطوير إدارة البرامج السكانية، لأنه من بين العوامل التي تؤثر على ارتفاع معدل الولادات في مصر هو بلا شك، تضاءل اهتمام وسائل الإعلام بالرسائل المتعلقة بتنظيم الأسرة والصحة الإنجابية، وقلة توافر المعلومات والنصائح حول تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية.
في هذا السياق، تم اقتراح استخدام مبادرات الحماية الاجتماعية مثل برامج تكافل وكرامة للتحويلات النقدية، لتعزيز تعليم الفتيات ووصول المرأة إلى الرعاية الصحية، ولا سيما خدمات تنظيم الأسرة. كما تمت الإشارة بشكل إيجابي إلى مبادرة الحياة الكريمة، التي تم إطلاقها في كانون الثاني عام 2019، والمشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية، الذي تم إطلاقه في شباط 2022، بوصفها أدوات مفيدة لتنفيذ العديد من المقترحات المتعلقة بالسياسات والاستراتيجيات.
ففي السنوات الأخيرة، أطلقت الدولة العديد من الحملات والبرامج الموازية للحد من النمو السكاني السريع. بالإضافة إلى ذلك، بلغ الإنفاق السنوي على توفير وسائل تنظيم الأسرة مجاناً أو بتكلفة مخفضة، أكثر من 100 مليون جنيه مصري أي قرابة الـ 5.2 مليون دولار.
في شهر آب الماضي، أفاد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بأن معدل الخصوبة لكل امرأة في مصر انخفض بنسبة 20٪ من 3.5 مولود لكل امرأة في عام 2014 إلى 2.8 في عام 2021. و بحسب مستشار رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حسين عبد العزيز، تسعى مصر إلى مواصلة خفض معدل الولادات إلى 1.6 مولود لكل امرأة. ومع ذلك، فإن شعبة السكان في الأمم المتحدة تحدد أي معدل يقل عن 2.1 ولادة لكل امرأة على أنه دون مستوى الإحلال.
يعتبر تعزيز عمالة المرأة عاملاً حاسماً في خفض معدل الولادات. وفي هذا الصدد، أظهرت الدراسات المتعلقة، بأن انعدام فرص العمل في القطاع الرسمي، وظروف العمل غير المواتية للمرأة، مثل استحقاقات الأمومة، وعدم وجود جداول عمل مرن، بالإضافة إلى أعباء المسؤوليات المنزلية غير المتناسبة، جميعها كانت من بين العوامل التي تساهم في انسحاب المرأة من سوق العمل، واستثمار وقتها وطاقتها بدلاً من ذلك في الزواج والإنجاب.
تعتبر الإدارة الأفضل لبرنامج السكان، المفتاح الرئيسي لنجاح جهود الحد من الولادات. وبحسب مراقبين، فإن الإستراتيجية الوطنية المصرية للسكان (2015 – 2030)، وخطة السكانية التي تم تنفيذها في مصر (2015 – 2020)، على الرغم من كونها شاملة، إلا أنها تعاني من العديد من نقاط الضعف.
تشمل أوجه القصور الإدارة المجزأة، ونقص التمويل ما أدى إلى فجوة تمويلية بنسبة 50٪ ، وعدم القدرة على توسيع التغطية الجغرافية للخدمات، ويرجع ذلك جزئياً إلى نقص مخصصات الميزانية. ويشير الخبراء أيضاً إلى عدم إشراك الرجال كشركاء في قرارات الصحة الإنجابية والخصوبة.
وللحصول على الاستفادة الكاملة من العائد الديمغرافي، يؤكد الخبراء للسلطات المصرية على ضرورة خلق فرص عمل وتحويل القوى العاملة إلى قطاعات أكثر إنتاجية، وخلق بيئة مواتية للقطاع الخاص وتطوير المشاريع، والحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وإمكانية التنبؤ بالسياسات.
أظهر استطلاع أجراه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، أن 75.6٪ من المواطنين على دراية “بمشكلة الاكتظاظ السكاني” في مصر. كما وجد المسح أن 52.5٪ من المستجيبين يعتقدون أنه يتعين على كل أسرة عدم انجاب أكثر من طفلين في ظل الظروف الحالية، بينما يعتقد 29.1٪ أن كل أسرة يمكن أن يكون لها ثلاثة أطفال.
أعاق الاكتظاظ السكاني في مصر الذي يمثل مشكلة منذ عقود، توفير مستوى معيشي مناسب، وتتوقع الحكومة أن تضطر مصر إلى مضاعفة إنفاقها على مشروعات البنية التحتية والتنمية خلال الثلاثين عاماً القادمة لتحقيق النمو المتوقع.
المصدر: البعث