جرعة صينية تعطي ماكرون شجاعة التمرد؟
ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما يشبه كوب ماء في مرجل ضخم ترمد حطبه، فلم يتحرك حتى الرماد إلا في موضعه، وذلك من خلال اعلانه بعد زيارة طويلة نسبيًا الى الصين أن الأوروبيين يجب ألا يكونوا أتباعًا للولايات المتحدة في أزمات لا دخل لأوروبا بها، وأنه يتوجب على أوروبا أن تقلل من اعتمادها على الدولار الأمريكي خارج "الحدود الإقليمية"، وتتجنب الانجرار إلى مواجهة بين بكين وواشنطن بشأن تايوان.
من حيث توصيف ماكرون للمشكلة التي تقع تحت أعبائها أوروبا، تبدو صحيحة من خلال قوله إن "الخطر الكبير الذي تواجهه أوروبا هو أنها عالقة في أزمات ليست من شأنها مما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية" ومؤكدًا نظريته حول "الحكم الذاتي الاستراتيجي" لأوروبا، التي من المفترض أن تقودها فرنسا، لتصبح "قوة عظمى ثالثة".
كان تشخيص الواقع الأوروبي من جانب ماكرون، من حيث المضمون، إلى هذا الحد من الاعتراف بالاستعمار الأميركي للأوروبيين، وهو في الحقيقة ربما أعمق من ذلك بكثير حتى على المستوى المجتمعي، حيث نشرت أميركا كل الموبقات غير الطبيعية واللانسانية في مجتمعات حاولت بناء منظوماتها الاجتماعية من خلال موروثاتها الثقافية بقيمها البشرية، ودعوة ماكرون تبدو تحررية بشكل نسبي من القبضة الاميركية القاسية، لكنها أقل من مستوى القضية التي أثارها، إلا اذا كان يتقصد الاستعراض، أو إذا كانت هناك قطب مخفية.
أوروبا التي كانت سباقة في التقنيات حتى العسكرية، ألقت بنفسها في الحضن الأميركي وباتت مجرد عميل يشتري أسلحة أميركية، وهذا ايضًا أشار اليه ماكرون بقوله إن أوروبا زادت من اعتمادها على الولايات المتحدة في مجال الأسلحة والطاقة وبالتالي يتوجب على أوروبا الآن التركيز على تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية.
من حيث المضمون أيضًا، فإن الصدقية تحتاج الى اجراء عملي، وما دام ماكرون تحدث عن ضرورة أن تصبح أوروبا قوة عالمية ثالثة وتقودها فرنسا، بات لزامًا عليه أن ينبري ويتقدم الصفوف في معاندة الجبروت الأميركي وليس فقط أن يكتفي بتصريح بعدما اندهش مما عاينه خلال زيارته إلى الصين، لا سيما وأنه دعا إلى تحقيق استقلال أكبر لأوروبا وعدم التكيف مع "الإيقاع الأمريكي"، وضرورة "استيقاظ" الأوروبيين والتفكير في مصالحهم.
اذا كان الرئيس الفرنسي منسجمًا مع كل ما أعلنه، فإن عليه بداية أن يتحرك بسرعة داخل المجموعة الأوروبية التي تعمل بنفسها على التدمير الذاتي من خلال الانصياع للرغبات الأميركية في معاداة كل بقعة ترفض الثقافة الأميركية المدمرة،ـ والأهداف الأميركية في اذلال الدول والأمم، اعتمادًا على القوة العسكرية المدمرة والشريرة، سيما أن لفرنسا تجربة مرّة مع من مد لها يد الصداقة، تمامًا مثلما حصل مع فرنسا والمانيا في اتفاقية مينسك التي لو نفذت لما كانت اليوم الحرب في أوكرانيا. والسيئ أن أميركا داست على البلدين وعلى التزاماتهما، وورطتهما في مماطلة تنفيذ الاتفاقية حتى تحقق غاية الحرب، ما ادى للمزيد من الدمار والموت والاستنزاف الأوروبي ورفع مستوى العداء لروسيا فيما يتم توقيع الاتفاقيات التجارية لصالح الولايات المتحدة الموجودة في المقلب الآخر من الأرض.
ان اعتراف الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند بلعب دور المخادع في اتفاقية مينسك يلقي بظلاله على موقف ماكرون، رغم أن الرئيس الحالي أذكى بما لا يقاس من هولاند. فهولاند كان اعترف بالمماطلة الفرنسية في تنفيذ اتفاق مينسك على مدى 8 سنوات لاعداد اوكرانيا قوتها العسكرية تحضيرًا للمواجهة مع روسيا وتأكيده أن الخطة كانت تقضي ببناء أوكرانيا قوتها العسكرية، وكان ينبغي إيقاف أنابيب غاز "السيل الشمالي-2" قبل اكتمالها، ومغادرة الشركات الغربية روسيا قبل ذلك بكثير. وهذا ايضا ما اعترفت به المستشارة الالمانية انجيلا ميركل التي كانت شريكة مثل فرنسا في الاتفاق، الذي أدت المماطلة في تطبيقه بضغط اميركي الى قيام روسيا بعد اكتشاف اللعبة بالعملية العسكرية المستمرة التي يراهن الغرب ولا سيما الاطلسي واميركا ـن تدمر نتائجها في الهجوم الذي تدفع اليه القوات الاوكرانية الشهر المقبل على أبعد تقدير.
المسألة هي هل تصدق الصين كلام ماكرون؟ لا سيما أنه في بداية الأزمة الروسية - الاوكرانية كان موقفه أقرب الى روسيا من الولايات المتحدة إن كان من حيث امدادات النفط والحبوب والأسمدة والمواد الصناعية المتعددة الروسية الى أوروبا، أو حتى على مستوى العقوبات والسلاح الى أوكرانيا، لا بل انتقد الأداء الأميركي في البداية وكاد أن يكون وسيطًا، لكن الأحداث طبعت مواقفه بتغييرات جوهرية.
من يدري اذا كان ماكرون صادقًا لا سيما أن الانطباع في العالم كله أن الغربيين ديدنهم الكذب للوصول إلى غايات محددة. كما تدرك بكين أيضًا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عاجزان عن وقف صعود الصين كقوة عظمى.
يونس عودة