بانضمام بلادهم إلى الناتو... هل سيودع الفنلنديون سعادتهم؟
قامت فنلندا في الحرب العالمية الثانية بتشجيع ألمانيا على غزو الاتحاد السوفياتي، بعد أن تحدثت عن هشاشة الجيش الأحمر وضعفه، لكن النتيجة كانت هزيمة الألمان وسحقهم، فهل سيعيد التاريخ نفسه؟
كانت فنلندا جزءاً من السويد، وخاضتا ضد الروس حرباً للسيطرة على بحر البلطيق، انتهت في عام 1809 بتنازل السويد عن فنلندا لروسيا. وبقيت كذلك حتى عام 1917، عندما قامت الثورة البلشفية في روسيا، فاستطاعت أن تحصل على استقلالها عن روسيا.
وبعد 3 أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية، قامت القوات السوفياتية بغزو فنلندا في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1939، فيما عُرف بـ "حرب الشتاء"، والتي انتهت بتوقيع معاهدة موسكو للسلام في 13 آذار/مارس 1940.
تكبّدت فنلندا خسائر كبيرة في هذه الحرب، لكنها شجعت ألمانيا على غزو السوفيات، بعد أن تحدثت عن هشاشة الجيش الروسي في حينه، وعدم قدرته على حسم المعارك.
وهذا ما شجّع الألمان على التفكير في غزو روسيا بعد تحالفهم مع فنلندا في الحرب العالمية الثانية، لكنّ المفاجأة كانت هزيمة الألمان وسحقهم على أيدي السوفيات.
هذه الهزيمة جعلت فنلندا وحيدة في مواجهة السوفيات، ثم أُجبرت على توقيع اتفاقية معهم في عام 1948، سمح السوفيات لها بموجبها بأن تكون دولة مستقلة، شرط التزامها الحياد، وألّا تكون طرفاً في أيّ حرب يمكن أن تُشَنّ على الاتحاد السوفياتي.
ظلت فنلندا تشعر بالقلق من روسيا، وازداد هذا القلق مع بدء الحرب في أوكرانيا. لذا، بدأت مشروع بناء سلك حاجز على طول حدودها مع روسيا، سينتهي العمل فيه في عام 2026، وتبلغ تكلفته 350 مليون يورو.
الحياد طريقاً إلى السعادة والرفاه
كان الدرس الأهم، بالنسبة إلى فنلندا بعد الحرب العالمية الثانية، يتمثل بأن الحياد هو الخيار الأفضل بالنسبة إليها، من أجل المحافظة على سلامتها، وسعياً لتحقيق الرفاه لشعبها، الذي بات يصنَّف من أكثر شعوب العالم سعادة.
لقد أدرك الشعب الفنلندي أهمية الحياد بالنسبة إلى بلده، والرفاه الذي يعيش به، فظل المزاج الشعبي العام رافضاً فكرة انضمامها إلى حلف الناتو.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن 80% من الفنلنديين كانوا يفضّلون بقاء بلادهم بعيداً عن التجاذبات السياسية، والاستقطابات الدولية.
لكن هذا التوجه تغيَّر كثيراً بعد الحرب في أوكرانيا، بحيث أصبح 80% من الشعب الفنلندي مؤيدين لفكرة انضمام بلادهم إلى حلف الناتو، خوفاً من التهديدات الروسية.
كانت أيّ رغبة من جانب فنلندا أو غيرها من دول أوروبا الشرقية في الانضمام إلى حلف الناتو تُواجَه بتهديدات روسية تصل إلى حد الاجتياح بالقوة العسكرية، كما حدث في أوكرانيا.
واليوم، وجدت فنلندا في انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية فرصة لها من أجل الانضمام إلى حلف الناتو، رغبة منها في ضمان حمايتها من جانب الناتو فيما لو تكرر معها السيناريو الأوكراني.
أمّا الناتو، فوجد في انضمام فنلندا فرصة كبيرة له في الوصول إلى الحدود مع روسيا، بحيث يبلغ طول الحدود بين البلدين 1340 كم، وهي أطول حدود لروسيا مع دولة أوروبية.
تُعَدّ فنلندا إحدى الدول الأوروبية الخمس (سويسرا – النمسا – أيرلندا – فنلندا - السويد) التي التزمت سياسة الحياد، واستمرت عليه منذ عام 1948 حتى انضمامها إلى حلف الناتو في الرابع من نيسان/أبريل 2023.
كان الشرط الأول لحصولها على هذا الحياد في حينه، هو أن تضع في الحسبان دوماً المشاغل الأمنية للاتحاد السوفياتي سابقاً، ثم بعده روسيا الاتحادية.
فهي دولة صغيرة وغنية جداً بالموارد الطبيعية، تبلغ مساحتها 338 ألف كم مربع، وعدد سكانها قليل، يبلغ نحو 5 ملايين ونصف مليون نسمة، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995، وهي من أفضل دول العالم تقدماً وترتيباً في المؤشرات العالمية.
وهي من أعلى معدلات الدخول في العالم، بحيث يبلغ متوسط دخل الفرد فيها نحو 56 ألف دولار سنوياً، ويبلغ تعويض ساعة العمل فيها نحو 27 دولاراً. هذا بالإضافة إلى مناخها المعتدل، وتنوع الطبيعة فيها، فهي بلد البحيرات، بحيث يوجد فيها نحو 20 ألف بحيرة. تلك الأسباب كلها، بالإضافة إلى الحياد الذي حظيت به، جعلت شعبها يصبح أكثر شعوب العالم سعادة.
المكاسب المتوقَّعة للناتو
عندما تأسس حلف الناتو في عام 1949، كان عدد أعضائه 12 دولة، وهي: الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبلجيكا وكندا والدنمارك وفرنسا وأيسلندا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا والنرويج والبرتغال.
وكان الهدف من تأسيس الحلف مواجهة أي تهديد توسعي من جانب الاتحاد السوفياتي في القارة الأوروبية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لكنّ المفارقة تكمن في أنه، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو (زوال الأسباب التي قام من أجلها الناتو)، لم يقم الناتو بتفكيك نفسه، بل على العكس تماماً، عملت الولايات المتحدة على توسيعه شرقاً ليضم عدداً كبيراً من دول الاتحاد السوفياتي السابق ودول أوروبا الشرقية، وصولاً إلى فنلندا التي كانت هي الدولة الـ 31 في الحلف.
لقد رأت الولايات المتحدة في حلف الناتو وسيلة لمنع عودة ظهور التيارات القومية في أوروبا، وأيضاً لتعزيز التكامل السياسي في القارة.
كما وجدت في انضمام فنلندا إضافة عسكرية للحلف، بحيث يتألف الجيش الفنلندي من 280 ألف جندي، ويمكن أن يصل عددهم إلى 900 ألف مع الاحتياط. ولدى فنلندا 240 دبابة، و1500 قطعة مدفعية، وهي من أهم منظومات المدفعية في أوروبا.
أمّا سلاح الجو الفنلندي فيضم 170 طائرة، وهو عدد ليس كبيراً، لكنها مؤخراً تعاقدت مع الولايات المتحدة من أجل شراء 60 طائرة شبح من طراز "أف 35".
كما تمتلك فنلندا ميزة كبيرة من خلال شبكة طرق قادرة على تهديد خطوط السكك الحديدية الروسية، في اتجاه مورمانسك في شبه جزيرة كولا، التي تضم ثلث القوة النووية الروسية.
وتنظر روسيا بقلق عميق إلى توسع الوجود العسكري الغربي في تلك المنطقة، التي تضم قاعدة رئيسة للغواصات النووية، بحيث لا تبعد عن الفنلنديين سوى نحو 180 كيلومتراً، انطلاقاً من نيدن الحدودية إلى قاعدة زابادنايا ليتسا.
ولعل الميزة الأهم هي أن الجيش الفنلندي لديه قدرة وخبرة كبيرتان فيما يتعلق بالقتال في المناطق الباردة، وهذا ما لا يمتلكه الأميركيون، ولا حلف شمال الأطلسي.
وتكمن الميزة الاستراتيجية لفنلندا في أن الأسطول الروسي، المتجه من سان بطرسبورغ إلى بحر البلطيق، عليه أن يمر بين دولتين، هما: فنلندا وإستونيا، وهما دولتان في الناتو. وبالتالي، ستكونان قادرتين على عرقلة مرور الأسطول البحري الروسي.
الردّ الروسي
لطالما لوّحت روسيا باستخدام القوة ضد أيّ دولة تفكر في زعزعة الأمن القومي لها، عبر انضمامها إلى حلف الناتو، العدو الأول لموسكو، وهو ما حدث بالفعل، عندما قامت موسكو ببدء الحرب في أوكرانيا بسبب رغبة الأخيرة في الانضمام إلى الناتو.
أمّا بالنسبة إلى فنلندا، فإن الوضع مغاير، ففنلندا لم تكن جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق، مثل أوكرانيا. كما أن انضمامها تزامن مع انشغال الروس بالحرب في أوكرانيا.
لذا، فإن الرد الروسي كان عبر إرسال مزيد من الأسلحة الاستراتيجية إلى منطقة الحدود مع فنلندا، ونشر أسلحة نووية في بيلاروسيا.
كل المؤشرات تشير إلى أن العالم ذاهب إلى مزيد من التصعيد، وأننا انتقلنا من الحديث عن سباق التسلح، إلى الحديث عن سباق التسلح النووي.
باتت احتمالات نشوب حرب نووية قائمة، في أيّ لحظة، في ظل الضغط على موسكو، أميركياً وغربياً.
وفي ظل بروز رغبة لدى عدد من دول العالم في التخلص من الهيمنة الأميركية، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فإن كل المعطيات تشير إلى بروز نظام دولي متعدد الأقطاب، تشكل الولايات المتحدة الأميركية والدول الموالية لها أحد هذه الأقطاب. أما الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران والسعودية وعدد من الدول الأخرى، فهي القطب الثاني.
وتبقى الهند وعدد آخر من الدول تسعى لأن تكون بعيدة عن أي مواجهة محتملة بين القطبين، إيماناً من هذه الدول بأن تلك المواجهة ستؤدي إلى إضعاف جميع المتحاربين، فتكون فرصتها في التعامل مع "المنتصر الضعيف".
وتبقى العين على الصين: هل ستستطيع البقاء على الحياد، أم سيجبرها الغباء الغربي على الانحياز إلى روسيا، والوقوف معها في وجه الهيمنة الغربية.
كل الاحتمالات قائمة، والمنطق يحتّم علينا عدم استبعاد أي منها، والقيادة الناجحة هي التي ستستطيع أن تنأى بنفسها وببلدها عن تلك الصراعات الكبرى، التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
ويبقى السؤال الأهم، بالنسبة إلى فنلندا: هل سيحقق لها الانضمام إلى حلف الناتو مزيداً من السعادة والاستقرار، أم أنه سيُنهي عقوداً من الرفاه الذي نعم به شعبها نتيجة للحياد، الذي أمنته لها موسكو في يوم من الأيام.
المصدر: الميادين