النزاع في السودان.. مصلحة أميركية إسرائيلية مشتركة رغم تناقض الأهداف
لا يمكن النظر إلى الأحداث التي تعصف بالسودان على أنها وليدة اللحظة أو نتيجة صراع حديث على السلطة بين رئيس المجلس الانتقالي وقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه في قيادة المجلس وقائد الدعم السريع الجنرال محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، إذ يعود التنافس بين الطرفين إلى اللحظة التي سقط فيها نظام حكم عمر البشير عام 2019.
انطلاقاً من كل حالة يشكّل فيها الجيش العمود الفقري للنظام السياسي، فإنّ أيّ محاولة لإسقاط هذا النظام ستشهد إصراراً لدى العسكر على تولي السلطة، بغية المحافظة على تركيبة تضمن يداً طولى للجيش في عملية إدارة القرار السياسي. وإذا كان من المنطقي أن يسعى البرهان في الحالة السودانية إلى الاستيلاء على السلطة، فإن الأمر الواقع الذي فرضه حميدتي جعله مؤمناً بحقه في استلام السلطة أو المشاركة الفاعلة فيها، بعدما استطاع أن يحصل على موقع مميز في هيكلية الدولة العميقة السودانية، نتيجة فعالية ميليشياته العسكرية التي جعلته مقرباً إلى الرئيس عمر البشير، إذ أغدق عليه بالرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة جنرال من دون أن يكون قد انتسب إلى المؤسسة العسكرية.
وانطلاقاً من طبيعة النظام الذي كان قائماً، حيث الرتب العسكرية والمشاركة في القرار السوداني لا تعدو كونها من المزايا التي يهديها الرئيس لأعوانه، مع ما يعنيه هذا الأمر من تعقيد على مستوى بناء الدولة وفق منطق وأسس دولة القانون والمؤسسات، فإن المهمة التي أوكلت لحمدوك لم تكن سهلة. وفي مقابل اعتماد القيادات السياسية المدنية السودانية على الدعم الأممي وعلى البيئة الحاضنة الشعبية التي تمثلت بالتظاهرات والاعتصامات، وجدت القيادات العسكرية ضالتها في دول الجوار الإقليمي والقوى الدولية الفاعلة في أفريقيا. وقد دفعت الأوضاع المتوترة في كل من ليبيا واليمن ودول الجوار السوداني في تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، مع ما يمثله هذا الأمر من صراعات عربية وإقليمية، إلى تكريس معادلة الدعم في مقابل الاستفادة من العديد العسكري السوداني.
ولتأكيد مدى الحاجة الإقليمية والدولية إلى العسكر السوداني، يمكن الإشارة إلى القبول الضمني بالانقلاب العسكري الذي أطاح الحكومة المدنية لعبد الله حمدوك نهاية 2021، وكرَس هيمنة الجيش السوداني بالتحالف مع قوات الدعم السريع على السلطة في السودان.
في هذا الإطار، ونتيجة العلاقات الجيدة التي تجمع دول الجوار، إضافة إلى الكيان الإسرائيلي، مع كل من البرهان وحميدتي، تفرض الطموحات الشخصية لكلا القائدين نفسها كمؤثر أساسي ودافع للعنف في السودان. يمكن لوجهة النظر هذه أن تفسر بشكل منطقي أسباب النزاع، إذ إنَّ إصرار البرهان على دمج القوات السريعة بالجيش خلال سنتين لا يمكن أن يُفسر إلا في إطار سعيه لإلغاء دور حميدتي في مستقبل السودان السياسي. في المقابل، سيظهر رد فعل حميدتي على أنه رد واقعي من قائد استطاع أن يحسم معركة السودان في دارفور نيابةً عن الجيش السوداني الذي فشل في مواجهة الميليشيات المسلحة الانفصالية في تلك المنطقة.
إن مقاربة أية أزمة في الشرق الأوسط ستفترض حتمية البحث عن أدوار خارجية؛ فمن البديهيات السياسية في الشرق الأوسط أن تتشابك الأسباب الداخلية لأيّ أزمة مع دوافع خارجية، إذ إنّ الدول، في حال لم تكن المحرك الرئيسي للصراع، ستدفع إلى استغلال الأحداث بما يخدم أهدافها ومصالحها. والكيان الإسرائيلي الذي يبحث عن تطبيع علاقاته مع الدول العربية، بما يساعد في تحصين بيئته الإستراتيجية، وخصوصاً في ظل تنامي قدرات محور المقاومة، لن يكون معنياً بتأجيج علني للصراع بين جنرالين صديقين سبق أن توافقا على خيار تطبيع علاقات السودان معه. وإضافةً إلى ما يمكن أن نستنتجه من خلال تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي إيدي كوهين في زيارته الأخيرة للسودان، إذ شدَّد على أهمية إقامة حكومة مدنية في السودان لتسهيل اتفاق السلام بين البلدين، بما يمكن أن يُفسر بالحاجة إلى الاستقرار في هذا البلد كشرط لازم، فإنَّ الإعلان عن الوساطة يظهر مدى اهتمام الكيان الإسرائيلي بالتمدد في السودان.
وفي هذا الإطار، فإن تصريح كوهين لا يقدم إلا نصف الحقيقة، إذ إنَّ المخاطرة بتأجيج مرحلي للصراع بين الطرفين، عبر دعم حميدتي، قد يفيد في زعزعة الاستقرار على الحدود الجنوبية لمصر، وقد يضمن مستقبلاً، في حال انتصار حميدتي، وجود رئيس سوداني متعاون مع الكيان الإسرائيلي، إذ التقى قادة الموساد من دون التنسيق مع البرهان أو القيادات السياسية، وساعد كثيراً في مراقبة حركة تهريب السلاح عبر البحر الأحمر إلى الجهات المعادية للكيان. أما الولايات المتحدة الأميركية، فإنَّ العلاقة بين الدعم السريع والدولة الروسية عبر قوات فاغنر قد تكون سبباً للدفع باتجاه تشكيل سلطة سياسية مدنية تلغي دور قوات الدعم السريع عبر دمجها ضمن الجيش، فالولايات المتحدة الأميركية المرتابة من الحراك الدولي المناهض لأحاديتها، ستكون معنية بتوجيه ضربة إلى الوجود الروسي في القارة عبر كسر أحد أهم حلفاء فاغنر فيها.
وفي هذا الإطار، تستفيد الولايات المتحدة من الريبة التي أبدتها مصر تجاه حميدتي، إذ تحتاج القاهرة إلى استقرار سوداني تحت قيادة البرهان من أجل ضمان إمكانية التحرك ضد إثيوبيا. من ناحية أخرى، يبرز دور الأزمة في السودان في زعزعة الاستقرار الإقليمي، ما قد يعكر صفو التفاهمات الإقليمية التي ترعاها الصين. أخيراً، يبقى أن نشير إلى حقيقة أنَّ الاستقرار والتفاهمات الإقليمية لا يشكلان عاملاً مساعداً في الحفاظ على المكتسبات الأميركية والإسرائيلية التي تحققت في الفترة الماضية. وبناء عليه، على الرغم من تناقض مصالح الطرفين وعدم الإجماع على دعم طرف واحد، يبقى النزاع الداخلي في السودان محط إجماع إسرائيلي أميركي في اعتباره إحدى الأدوات المتاحة لتحقيق خرق في مسار إقليمي لا يناسب كلا الطرفين.
وسام اسماعيل