الكيان الصهيوني وأزماته الثلاث
منذ بداية المخطط البريطاني لصنع الصهيونية في منتصف القرن التاسع عشر، كان من الواضح أن يجند الاستعمار البريطاني اليهود ويشجعهم على الاستيطان في فلسطين والترويج لمزاعم «أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وهي العبارة التي استخدمها اللورد شافتسبيري عام 1841 للتحريض على الاستيطان فيها، وكررها من بعده رئيس الحركة الصهيونية تيودور هيرتزيل بعد انعقاد أول مؤتمر للحركة الصهيونية عام 1897.
واستخدمت الحركة هذه المزاعم لعقود كثيرة ثم كفت عنها بعد أن تبين للعالم كله أن الشعب الفلسطيني كان يقاوم بريطانيا والمنظمات المسلحة الصهيونية نفسها بكل ما استطاع، وبعد نكبة عام 1948 اتجهت إستراتيجية الكيان الإسرائيلي إلى إنكار وجود شعب فلسطين وصلته بوطنهم، وهذا ما أعلنته رئيسة حكومة العدو السابقة غولدا مائير عام 1967، ومن بعدها رئيس الحكومة في السبعينيات مناحيم بيغين، وكأن إنكار وجود الشعب الفلسطيني وصلته التاريخية الثابتة سيجعل هذا الشعب يختفي من الوجود وتنتهي مقاومته التي استمرت قرناً ضد قوى الاستعمار وصنيعته الصهيونية، وها هي مقاومته في هذه الأيام تتصاعد وتثبت إنجازاتها في صمود وحماية سبعة ملايين فلسطيني ما زالوا ينتشرون على معظم مساحة وطنهم من رأس الناقورة حتى آخر شبر في قطاع غزة يدعمهم ثمانية ملايين يتمسكون بهويتهم الوطنية ويناضلون من أجل العودة إلى وطنهم حتى بعد مرور 75 عاماً على وجود هذا الكيان الغاصب الذي تخيفه هذه الحقيقة وتدفعه إلى القلق على مستقبل مشروعه الصهيوني، وهذا ما جعل وزير مالية الكيان باتسليئيل سموتريتش يعلن في باريس في 20 آذار الماضي عن زعمه بعدم وجود شعب فلسطيني وهو يعرف أن تاريخ العالم وشعوبه سجل وجود هذا الشعب ووطنه الفلسطيني في كل القرون، بل إن شريعة الدين اليهودي التي ينتمي لها سموتريتش سجلت في «سفر استير» وفي سفر «شرائع الملوك» الذي يعود لموسى بن ميمون أن «الرب فرض ألا يلجأ اليهود لاحتلال «أرض إسرائيل» إلا بعد ظهور المسيح المنقذ المخلص لهم»، أي في نهاية الزمان، وهذا ما يعدونه من الفرائض الأساسية للشريعة الخاصة بهم وقد استخدمت عبارة «احتلال» هنا تأكيداً لوجود أصحابها الفلسطينيين والدفاع عنها طوال ذلك التاريخ ضد جميع الغزاة والمحتلين.
ويبدو أن التآكل الذي تعرض له مشروع الكيان الإسرائيلي طوال ثمانية عقود أصبح يهدد بقاءه ولذلك يحاول قادة الكيان في هذه الظروف تنفيذ إستراتيجية بالغة الخطورة وهي ترحيل الفلسطينيين من كل فلسطين بوساطة حروب الإرهاب والاعتقال والترويج الإعلامي التحريضي بعدم وجود صلة للفلسطينيين بهذا الوطن وأراضيه وهي آخر الأوراق التي يسعون إلى فرضها أمام العالم لتبرير سياستهم الوحشية.
وإذا كان الوضع الداخلي في الكيان يتعرض لأزمات بين أحزابه منذ ثلاثة أعوام فإن الأزمة بين حكومات الكيان مع الجالية اليهودية الأميركية آخذة بالتفاقم منذ عام 2018 بعد الملاحظات التي أبداها معظم يهود أميركا حول فرض نظام «يهودية الدولة» الذي استصعبت نسبة كبيرة منهم اليهود تبريره خوفاً من إدانة الكيان بانتهاج سياسة «أبارتايد» عنصرية والمضاعفات السلبية لهذه السياسة على اليهود الأميركيين داخل الولايات المتحدة، وتبين من استطلاع للرأي في ذلك الوقت أن 45 بالمئة من يهود أميركا لا تعنيهم يهوديتهم كثيراً، وكان معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي قد نشر تحليلاً عام 2018 عن وجود «أزمة عميقة غير مسبوقة تضرب العلاقات بين يهود أميركا وإسرائيل» وقد ترافقت هذه الأزمة مع نشر كتاب حقق مبيعات وانتشاراً واسعاً في الولايات المتحدة أصدره كاتبان يهوديان في أميركيا هما ميخائيل شابون وآيليت فالدمانو من 400 صفحة بعنوان «مملكة الزيتون والرماد.. كتاب يواجهون الاحتلال» ضم في صفحاته مقالات وتحليلات لعشرين كاتباً أميركياً معظمهم من اليهود، «جمعوا في الكتاب شهادات من ضباط وجنود إسرائيليين ومن فلسطينيين تحدثوا فيه عن وحشية سياسة الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة خلال 50 عاماً».
ومع تدهور النفوذ والقوة الأميركية في المنطقة في السنوات القليلة الماضية، يبدو من الطبيعي أن يجد الكيان نفسه في وضع غير مسبوق وسلبي جداً في ساحته الداخلية وفي ساحته الخارجية مع الولايات المتحدة وتراجع قوتها في المنطقة وفي علاقته المتأزمة مع يهود الولايات المتحدة.
المصدر: الوطن