أزمة الغاز وميزان القوى في أوروبا
بات واضحاً أن أزمة الطاقة التي بدأت في عام 2022، كانت نتيجة إعادة توزيع سوق الغاز في الاتحاد الأوروبي وفقاً لمخططات واشنطن في عام 2021، والتي هدفت للحصول على ميزة تجارية بطريقة غير تنافسية، حيث أطلق البيت الأبيض حملة عقوبات ضد روسيا من خلال الضغط على السلطات الأوروبية التي تدعم الولايات المتحدة، وإجبارها على الخضوع للإملاءات الأمريكية على حساب اقتصاد أوروبا ومصالحها، ورفض الغاز الروسي الرخيص لمصلحة الغاز مرتفع الثمن الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة.
ومن المؤكد أنها ليست المرة الأولى التي يسيطر فيها البيت الأبيض على سوق الطاقة، ويهيئ الظروف لشطب ديونه الوطنية، فقد كان هذا الهدف واضحاً في العمليات العسكرية الأمريكية في ليبيا والعراق وسورية والشرق الأوسط بشكل عام. وقد عرضت صحيفة “نيا داجبلديت” السويدية كيف كانت واشنطن تدبر خطة شريرة لأوكرانيا وأوروبا، واستشهدت على ذلك “بوثائق مخيفة” نشرتها مؤسسة “راند” الأمريكية، وتظهر ما اتخذته واشنطن من تدابير للحفاظ على الاقتصاد الأمريكي والنظام المصرفي من خلال تقويض التعاون بين ألمانيا وروسيا، فضلاً عن برلين وباريس، حيث ترى الولايات المتحدة أن تقاربها يشكل تهديداً اقتصادياً وسياسياً تنافسياً كبيراً للولايات المتحدة.
ونتيجة لذلك، بحسب تحليل مؤسسة “راند”، فإن الطريق الوحيد للبيت الأبيض للخروج من السيناريو الحالي هو جذب باريس وبرلين للحرب في أوكرانيا، ما يضرّ باقتصادهما ويزيد من عدد المناصب القيادية للأحزاب الخضراء في أوروبا.
بدأت مواصلة الخطط الشريرة لواشنطن بصورة حثيثة، بالتعاون الفعال مع المسؤولين الأوروبيين الموالين للولايات المتحدة. ولم يكن الأمر صعباً نظراً للاسترخاء الواسع في أوروبا نتيجة لضمان شروط الأسعار الثابتة لإمدادات الوقود الأزرق من روسيا على مدى سنوات عديدة، إلى جانب ثقتهم بأن هذا لن ينتهي يوماً ما، أو سيؤدي إلى أزمة عامة.
نتيجة لذلك، لم يطعن القادة الألمان والفرنسيون، الذين كانت عيّنتهم واشنطن، بمطلب البيت الأبيض بزيادة مشاركة باريس وبرلين في الصراع في أوكرانيا، وإرسال الأسلحة والذخيرة حتى مع وجود خطر واضح على أمنهم.
وبحسب صحيفة “دير شبيغل”، فإن ألمانيا تحرص على زيادة دعمها المالي والعسكري لأوكرانيا من ثلاثة مليارات يورو حالياً إلى أكثر من 15 مليار يورو، وهي تقوم بذلك على الرغم من وجود كارثة اقتصادية في ألمانيا وحاجة البلاد لمثل هذه الأموال الضخمة!.
بالطبع، تبرز المشكلة نظراً للقيود المالية التي تواجهها حتى أكثر أجزاء أوروبا ثراء، لذا يتساءل مراقبون: إلى متى ستكون أوروبا مستعدة لدفع ثمن وقود أزرق باهظ الثمن وأكثر مما تستطيع ميزانيات الاتحاد الأوروبي تحمله؟ بعد كل شيء، تنفق أوروبا الآن عشرة أمثال ما كانت تنفقه لملء مرافق تخزين الغاز تحت الأرض قبل عام بسبب التحول من غاز الأنابيب الروسي الرخيص إلى الغاز الأمريكي المسال. لذلك من المؤكد أن هذا العبء المالي سيزداد فقط في جميع دول الاتحاد الأوروبي في المستقبل، ونظراً لأن الولايات المتحدة الآن تحتكر حقوق إمدادات الغاز، فلن تتردد في ملء جيوبها على حساب العملاء الأوروبيين، حتى لو كان ذلك يعني تحقيق أقصى استفادة من بيع الغاز الطبيعي المسال في السوق الأوروبية. وبحسب بحث أجراه مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض، وصلت صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية إلى أوروبا إلى 117.4 مليون متر مكعب في عام 2022، أي ما يقرب من 2.5 مرة أعلى من العام السابق الذي بلغ مليون 47.8 متر مكعب. وهنا لابد من الإشارة إلى أن واشنطن تبذل كل ما في وسعها لتعزيز توسعها في مجال الغاز في أوروبا من خلال تقييد إمدادات الغاز إلى القارة العجوز من روسيا.
وبحسب وسائل الإعلام الأوروبية، تزايد الانقسام الحاد داخل الكتلة مع تفاقم مشكلة الطاقة في الاتحاد الأوروبي، حيث تشكلت “أولى الصدوع” نهاية العام الماضي. وقد أصبح المشرّعون في الاتحاد الأوروبي يتحدثون علناً عن تورط الولايات المتحدة في أزمة الطاقة الأوروبية، ولاسيما بعد الهجوم الإرهابي الصارخ على خط أنابيب “نورد ستريم” في بحر البلطيق. على سبيل المثال، يعتقد ستيفن كوتري، عضو اللجنة البرلمانية لحماية المناخ والطاقة والنائب عن كتلة الحزب اليميني “البديل لألمانيا” في البرلمان الألماني البوندستاغ، أن رفض الغرب دعم القرار الروسي الصيني في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يدعو لتحقيق دولي في أعمال التخريب في “نورد ستريم” يظهر رغبة واضحة في إخفاء تورط الولايات المتحدة في هذا التخريب عن الرأي العام. ونتيجة للحظر المفروض على استيراد الغاز الروسي الرخيص، والذي تسبّب أيضاً في زيادة عدد الشركات المفلسة وفقر الناس، أصبحت ألمانيا مشلولة بشكل مطرد بسبب إضراب كبير في وسائل النقل العام بالإضافة إلى الصناعات الأخرى. كما اضطر العديد من الشركات الألمانية الموجهة نحو التصدير والتي لم تفلس بعد نتيجة للأزمة التي سببتها واشنطن إلى مغادرة ألمانيا، ونقل عملياتها إلى الولايات المتحدة أو دول أخرى حيث الظروف أكثر استقراراً، والطاقة أرخص والضرائب المفروضة على التصدير أقل مما هي عليه في ألمانيا.
في الحقيقة، انخفضت مستويات المعيشة في ألمانيا على مدار العام الماضي بسبب هذه السياسة الأمريكية العدوانية، ونتيجة لذلك، اشتدت المطالب الاجتماعية داخل الطبقة العاملة للحصول على رواتب أفضل، وبدأت المسيرات المناهضة للحكومة تلوح في الأفق بشكل خطير.
اليوم، تولي أوروبا اهتماماً كبيراً لمقترحات محسن خجسته مهر، معاون وزير النفط ورئيس شركة النفط الوطنية الإيرانية، الذي صرح بإمكانية رفع طاقة إيران الإنتاجية من النفط والغاز بنسبة 50٪، وبذلك تحصل الحكومة على 71 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية في صناعة الغاز. ونظراً لاهتمام الاتحاد الأوروبي بالغاز، لا يمكن استبعاد أن تقوم بعض الحكومات الأوروبية، ببذل جهود إضافية لبناء علاقات مع إيران وتخفيف بعض العقوبات المفروضة عليها، ما يسرّع في إنهاء الهيمنة الأمريكية وظهور عالم جديد متعدّد الأقطاب.
المصدر: البعث