الإنقسام الصهيوني.. الأسباب الداخلية والنتائج الخارجية
لا يمكن اعتبار الأحداث الأخيرة التي تعصف بالداخل الإسرائيلي عادية أو تعبّر عن سلوك نمطي للمجتمع الإسرائيلي، إذ إن الصورة التي كان يهدف المؤسسون إلى تعميمها لا تخرج عن إطار التماسك والاستقرار المجتمعي والقدرة على معالجة أي انقسام داخلي، ضمن إطار مؤسسي بسرعة وفعالية ما يجنّب البناء “الدولتي” للكيان أي ضرر.
وإذا كان من الممكن أن نتحدث عن انقسام سياسي تاريخي بين مكوّنات السلطة السياسية في الكيان، فإن ذلك الانقسام لم يكن إلا محاولة لتظهير العمل السياسي الإسرائيلي وفق مفاهيم الحرية والديمقراطية، إذ كانت كل الأطراف السياسية متفقة على الهدف النهائي المتمثل بالحفاظ على ما يسمى بقوة الكيان وتماسكه، وقدرته على التفوّق الاستراتيجي، بالإضافة إلى وحدة الرؤية العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، والانتماء إلى ما يعدّونه العالم المتحضر المتمثل بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وبذلك، يصبح من الممكن اعتبار ذلك الانقسام شكلياً يشبه في طياته الثنائية الحزبية الأميركية المتوافقة على سياسات الولايات المتحدة الأميركية الخارجية.
وإذا كان سلوك الطبقة السياسية قد التزم، ظاهرياً، رؤية موحّدة للمصلحة العليا الإسرائيلية طوال أكثر من سبعين عاماً، فإن ذلك لم يكن مرتبطاً بعملية بناء المجتمع الصهيوني، وفق أسس هذه المصلحة، ووفق ضرورة عدم انعكاس التمايز السياسي الداخلي اختلافاً في الرؤية حول كيفية المحافظة على القدرات الردعية للكيان.
فالمشروع الإسرائيلي التوسعي الذي انطلق منذ إعلان الكيان وصولاً إلى بدء توقيع اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية مروراً بالحروب العدوانية التي شنّها، كان يفترض تماسكاً داخلياً استثنائياً، شكّل قناعة عند الجيل المؤسس ومن خلفه بعض القادة الذين تأثروا بالعلاقة المباشرة مع ذلك الجيل، بضرورة المحافظة على صورة هذا التماسك وعلى التضامن الداخلي.
وإذا كانت فكرة المحافظة على الكيان “الدولة” مفهومةً لدى المؤسسين الذين خاضوا حروباً، عدّوها ضرورية لتأسيس الكيان وضمان استمراريته، فإن من تسلم السلطة من بعدهم، خصوصاً في السنوات الأخيرة، لم يظهر استعداداً للتضحية في سبيل الكيان، وإنما تعاطى مع السلطة على أنها وسيلة لتكريس النفوذ وتحقيق المصالح الخاصة، أو أنها أداة للتغطية على ملفات الفساد، بعيداً من المصلحة العليا للكيان.
أما على مستوى البناء السياسي الداخلي، فإن شكل التنافس السياسي الذي نجح الجيل المؤسس في تكريسه، وفق توازن الحزبين المهيمنين على الحياة السياسية، تحت سقف نظام تعددي، لم يعد متاحاً في عصرنا الراهن. فالتنافس السياسي الذي ساد حتى ما قبل نهاية الألفية بين حزبي العمل والليكود وعدد قليل من الأحزاب الأخرى، قد تحوّل إلى انقسام سياسي حاد، إذ برزت في الكنيست كتل نيابية تمثل أحزاباً كثيرة، تتناحر وتتشابك فيما بينها، بحيث يشكل الحصول على المغانم والمقاعد الوزارية هدفها الأول.
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى الفشل في تشكيل أكثرية ثابتة منذ عام 2019 على الرغم من إعادة الانتخابات التشريعية خمس مرات. وإن كان لهذا الأمر دلالة، فإنه يدلل على تشظي المجتمع الإسرائيلي وانقسامه على نفسه، إذ لم يعد هذا الانقسام يظهر على شاكلة يمين ويسار فقط، إنما يؤكد الانقسام والتفتت داخل كل اتجاه.
إضافة إلى ذلك، يبدو لافتاً أن القادة الإسرائيليين، في السلطة وخارجها، لم يجدوا أي حرج في السماح باستمرار الخلاف وتحوّل الانقسام السياسي إلى انقسام شعبي، قد يهدد في حال استمراره باندلاع مواجهات مسلحة. فالحكومة بوجهها اليميني المتطرف، الذي يضم إلى جانب نتنياهو كلاً من إيتمار بن غفير وبتسلال سموتريتش، لم تظهر مرونة في تعاطيها مع المستجدات الداخلية المرتبطة بالأمن القومي الإسرائيلي. فالإصرار على إسقاط السلطة الفلسطينية، وإثارة العنف تجاه الفلسطينيين، مع ما يعكسه هذا العنف من عمليات تضرب العمق المجتمعي الإسرائيلي، بالإضافة إلى إظهار عدائية غير مسبوقة تجاه المعارضة الإسرائيلية تحت مسميات يهودية متطرفة، لن يساعد في إعادة الهدوء إلى مدن الكيان.
أما على مستوى تحديات الكيان الخارجية، فبالإضافة إلى القلق من تعاظم قوة حزب الله على الحدود الشمالية وتمدد مسرح عمليات المقاومة في اتجاه الجولان، مع ما تعانيه المؤسسات الأمنية والسياسية داخل الكيان من تخوف نتيجة تطور قدرات إيران النووية والصاروخية، ونجاحها في رسم معالم تحالف مقاوم يهدد الأسس الإستراتيجية للقوة الإسرائيلية القائمة على توجيه الضربات، وضمان عدم تلقي أي رد فعل، يظهر قلق متزايد لدى النخب السياسية الإسرائيلية من خطر فقدان الدعم الغربي للكيان. وقد كان الدعم الأوروبي والأميركي للكيان مرتبطاً بما يظهره هذا الأخير من دينامية وانتظام خلف أجنداته. فعلى الرغم من التصريحات ذات السقوف العالية التي كان يحرص القادة الصهاينة على إطلاقها في إطار تهديد المقاومة في فلسطين أو لبنان أو حتى الجمهورية الإسلامية، فإن الواقع كان يدلل دائماً على التزام إسرائيلي بالخطوط الحمر التي يحددها الغرب.
إضافة إلى ذلك، لم تكن تهدف الزيارات الأخيرة للمسؤولين الأمنيين والسياسيين الأميركيين، والتي كان من بينها زيارة لوزير الخارجية أنطوني بلينكن، إلى التعبير عن الدعم والالتزام بأمن الكيان فقط، وإنما كانت تستهدف حث الحكومة الإسرائيلية على الالتزام بالمسار السياسي الذي تتبناه الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، وعدم الارتجال في تبني قرارات من خارج السياق الأميركي.
وعلى الرغم من عرقلة الولايات المتحدة الأميركية لمشروع قرار أممي يدين الاستيطان، فإن حكومة اليمين الإسرائيلي لم تتجاوب مع دعوات الأخيرة لناحية تهدئة الأوضاع مع الفلسطينيين. من ناحية أخرى، يظهر اليمين الإسرائيلي المتطرف جنوحاً نحو استفزاز الجمهورية الإسلامية ونحو محاولة توتير الأجواء في المنطقة بما يمكن أن يدفع نحو مواجهة مباشرة، تلزم الولايات المتحدة على الانخراط فيها، في حين أنها لا توافق على ما قد يؤثر في جهود الدعم المتواصل لأوكرانيا.
في الختام، يمكن التقدير أن الخلاف الإسرائيلي الذي أدخل مجتمع الكيان في دوامة من الانقسام العمودي، بالإضافة إلى السلوك الذي انفجر في وجه عمليات فدائية موجعة، معطوفاً على الموقف الأميركي الرافض مبدئياً لأي تصعيد إسرائيلي إقليمي، قد رسخ بوادر الخلاف بين الغرب وحكومة نتنياهو، بما قد يجعل أي إمكانية لإعادة التوازن في العلاقة أمراً يصعب تحقيقه، أقلّه في المدى المنظور.