استفزاز الدب الروسي قد يدفع جيوش بوتين للزحف حتى النورماندي
بين تصريح رئيس وزراء هنغاريا بأنّ جيوش الناتو تتحضّر للدخول في الحرب الأوكرانية بشكل سافر، ونفي قيادة الناتو، وتحذير الخارجية الروسية مما يجري بانه “قد يحرق العالم” كما يقول مدير إدارة السياسة الخارجية الروسية مساء أول أمس،
تواصل الدمى الأميركية في أوروبا، التي يطلق عليها في الإعلام الغربي الأطلسي اسم “قادة الاتحاد الأوروبي”، هجومها الإعلامي الحاقد، حتى على القطط الروسية، وتتهم روسيا بـ “غزو” جارتها أوكرانيا!
والحقيقة انّ هؤلاء الدمى الفاقدة للذاكرة، بحاجة الى دراسة التاريخ الأوروبي، القديم منه والحديث، وان يصارحوا شعوبهم بحقيقة مواقفهم التبعية للولايات المتحدة، تمهيداً لتغيير هذه المواقف والسير بالاتجاه الصحيح، قبل ان يقوم القيصر الروسي الجديد بوتين بتكرار ما حصل لهم مع حلول الذكرى الثامنة بعد المئتين (٢٠٨)، لفتح الجيش الروسي للعاصمة الفرنسية باريس ودخول القيصر الروسي، ألكسندر الأول، مع جيوش الخيالة الروس فاتحاً لها وذلك بعد ظهر يوم 31/3/1814.
ويومها هرب الامبراطور الفرنسي، نابليون بونابرت، واستسلمت باريس، اثر فشل حملته العسكرية العملاقة لاجتياح روسيا واحتلالها والسيطرة عليها، “متحالفاً” مع اثنتين وعشرين دولة أوروبية، من دول ذلك الزمان، التي كانت تتشكل من بعض الممالك والإمارات تحت الهيمنة الفرنسية الكاملة، الأشبه بالمستعمرات منها من الدول المستقلة.
بدأ يومها نابليون حملته العسكرية ضدّ الامبراطورية الروسية، بتاريخ 24/6/1812، بجيش عملاق، بمقاييس ذلك العصر، ضمّ ما يزيد على ستمائة الف جندي، وكان هدفه احتلال موسكو وإرغام الامبراطورية الروسية على الاستسلام الكامل.
لكن جيوشه استسلمت، وأجبر هو على التنازل عن العرش الامبراطوري، وتمّ نفيه الى جزيرة إلبا Elba / الإيطالية، بتاريخ 31/3/1814، بعدما كان قد أحرق موسكو، قبل هروب جيوشه منها تحت ضربات الجيش الروسي.
ومن ثم انسحبت جيوشه من الأراضي التي احتلتها، في غرب روسيا (كانت آنذاك مدينة سانت بطرسبورغ على بحر البلطيق هي العاصمة الروسية وليست موسكو)، انسحاباً فوضوياً، لا بل مأساوياً جداً. والتي لم يصل منها الى فرنسا على قيد الحياة سوى أقلّ من خمسين ألف جندي بقليل، بينما قُتل وجُرح وأُسر ما يقارب خمسمائة وخمسين ألفاً في تلك الحملة العسكرية الكارثية.
وقد شكلت هزيمة جيوش نابليون يومها بداية عهد جديد في أوروبا، لا بل في العالم أجمع، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ لأن هزيمة فرنسا وانتصار روسيا في تلك الحرب قد فتحت الباب أمام تحرّر الشعوب الأوروبية، من السيطرة الفرنسية المباشرة والهيمنة الشاملة على مقدرات تلك الشعوب، وهو ما أسفر عن بدء نشوء الدول الأوروبية القومية، فظهرت في أوروبا، شرقاً وغرباً، ممالك عدة كان أهمّها آنذاك مملكة بروسيا الألمانية ومملكة باڤاريا ومملكة ڤورتينبيرغ ومملكة سكسونيا، وكذلك ممالك بولندا وبلغاريا وصربيا وغيرها.
2 ـ أدّى انتصار روسيا وهزيمة فرنسا، من بين مفرزات أخرى، الى تضعضع السيطرة العثمانية على دول البلقان، التي رأت في الوجود الروسي عاملاً مساعداً لها على استقلالها والانعتاق من الحكم العثماني. وقد تجلى ذلك في استقلال تلك الدول عن الحكم العثماني، في السنوات التالية، فعلياً.
3 ـ نجاح الامبراطورية الروسية في الحفاظ على وجود روسيا الموحدة، بما في ذلك المناطق التي يطلق عليها اسم أوكرانيا حالياً، وحجزت لنفسها مقعداً بين الدول العظمى في العالم، وأثبتت لشعوب القارة الأوروبية قاطبةً بانها دولةً قادرةً ليس فقط على حماية مصالحها وامنها القومي فقط وانما هي قادرةً على حماية امن القارة الأوروبية باكملها وان ليس لها اية مطامع توسعية في أراضي هذه القارة، بدليل انها قد سحبت جيوشها من كلّ الأراضي الأوروبية، التي سيطرت عليها خلال معارك مطاردة فلول جيوش نابليون وسحقها.
ايّ انّ روسيا، سواء القيصرية ام الشيوعية او البوتينية الآن، لم تقم بشنّ اية حروب عدوانية توسعية، في القارة الأوروبية، وإنما هي اضطرت، للدفاع عن نفسها، أمام الحروب التي شنت عليها، من قوى عظمى (سابقاً) أوروبية.
وهذا بالضبط ما حدث ايضاً في النصف الاول من القرن العشرين، عندما اضطرت روسيا / الاتحاد السوفياتي/ الى التصدّي للهجوم الألماني النازي على أراضي الدولة السوڤياتية، ومن ضمنها أراضي ما يُعرف اليوم باسم أوكرانيا التي أنشأها لينين سنة 1920 كجمهورية سوفياتية اشتراكية بعدما كان قد قضى على النازيين الأوكران أمثال ستيبان بانديرا وغيره، الذين أُنشأت تنظيماتهم النازية سنة 1915، من قبل أجهزة الاستخبارات الألمانية والنمساوية وتمّ توظيفهم في القتال ضدّ الجيش الامبراطوري الروسي وكانوا يتلقون الدعم من الامبراطورية الألمانية والامبراطورية النمساوية حتى عام 1918، عندما هزمت الامبراطورية الألمانية والنمساوية /المجرية / في تلك الحرب.
وفي هذا الإطار لا بدّ من التأكيد على انّ سبعين في المائة من الجيوش الهتلرية، التي اجتاحت كلّ الدول الأوروبية (عدا بريطانيا) شرقاً وغرباً، كانت تقاتل على الجبهة الشرقية، ايّ جبهة الاتحاد السوفياتي، وعلى جبهة بطول ألف وسبعمائة كيلومتر، تمتدّ من مدينة لينينغراد (حاصرها الجيش الألماني مدة 900 يوم) الواقعة على شواطئ بحر البلطيق في شمال غرب روسيا ومدينة ستالينغراد الواقعة في حوض نهر الڤولغا في شمال القوقاز (شمال بحر قزوين).
المعروف انّ الاجتياح العسكري النازي لأراضي الاتحاد السوفياتي قد بدأ، بتاريخ 22/6/1941، وقد وصلت الجحافل الألمانية، نهاية صيف ذلك العام الى مشارف العاصمة السوفياتية موسكو، حيث ووجهت بمقاومة عنيفةً جداً، اضطرت هذه الجيوش الى التراجع عن أبواب موسكو.
وقد تبع ذلك قيام الجيوش السوڤياتية ببدء هجوم مضاد، لتحرير أراضي الاتحاد السوفياتي المحتلة من الاحتلال النازي، وهو الهجوم الذي أدّى في حينها الى…
1 ـ تحرير الجيوش السوفياتية لكامل أراضي القارة الأوروبية، التي احتلتها الجيوش النازية، وفي مقدّمتها، بعد تحرير أراضي جمهورية روسيا الاسترالية السوڤياتية، كلا من الأراضي التي يُطلق عليها اسم أوكرانيا حالياً وجمهورية بولندا، وهما النظامان الأكثر عداءً لروسيا البوتينية حالياً، علماً انّ بولندا الحالية كانت، إبان الحملة العسكرية الفرنسية ضدّ روسيا سنة 1812، جزءاً من الامبراطورية الروسية.
وهذا يعني انّ الاتحاد السوفياتي، وفي القلب منه روسيا، قد قام بتحرير الشعوب الأوروبية قاطبة من الاستعمار والاضطهاد النازيين، بما في ذلك فرنسا طبعاً، التي لو لم تكن الجيوش السوفياتية قد ألحقت سلسلة من الهزائم بالجيش الألماني، على الجبهه الشرقية، لما استطاعت قوات الحلفاء الغربيين تنفيذ عملية الإنزال البحري الواسع النطاق، على سواحل مقاطعة النورماندي الفرنسية، والبدء بالتوغل داخل أراضي ألمانيا النازية.
2 ـ نجاح الجيوش الروسية، ورغم خسارة الاتحاد السوفياتي لما مجموعه 33 مليون قتيل بين عسكري ومدني، نجاحه في الزحف حتى برلين.
3 ـ أتمّت الجيوش السوفياتية السيطرة الكاملة على العاصمة النازيه برلين بتاريخ30/4/1945 وجرت مراسم توقيع وثيقة استسلام ألمانيا النازية رسمياً، وحسب القوانين العسكرية الدولية، يوم 8/5/1945 في فرنسا، ثم انتقلت الأطراف الموقعة على الوثيقة، جواً الى موسكو، حيث وصلت بهم الطائرة بعد منتصف الليل، ليجري استكمال توقيع الوثائق فجر يوم 9/5/1945 (لذلك تحتفل روسيا يوم 9 آذار، وليس يوم 8 أايار، كما هو الحال في الدول الغربية.
4 ـ إذن تمكنت روسيا مرة أخرى من تحرير الشعوب الأوروبية قاطبة من نير النازية الإجرامية وإنشاء دول وطنية مستقلةً.
إلا انّ سياسات الهيمنة الأميركية، والعداء المستحكم ضدّ روسيا في أوساط صانعي القرار الأميركي، قد دفعتهم الى تقسيم ألمانيا، بدل الإبقاء عليها موحدةً وإقامة نظام سياسي ديموقراطي فيها، يكون كفيلاً بعدم عودة النازية الى هذا البلد.
بحيث أسفرت السياسات الاستعمارية الأميركية عن تقسيم القارة الأوروبية، مرةً أخرى، وإقامة جدار حديدي، بين شرقها وغربها، كرّسته بإنشاء حلف العدوان الغربي، المسمّى: حلف شمال الأطلسي سنة 1949، وبدأت بوضع الخطط لضرب الاتحاد السوفييتي بالأسلحة النووية والقضاء عليه، ايّ القضاء على روسيا كدولة.
5 ـ عادت الولايات المتحدة الى ممارسة سياساتها الاستعمارية بشكلٍ عام وتلك الهادفة الى القضاء على الدولة الروسية وتفتيتها الى 89 دولة (حسب مخطط رسمي أميركي محفوظ في الغرف المظلمة). وانطلقت في ذلك بتوسيع سيطرة حلف شمال الأطلسي لتصل سيطرته الى الحدود الروسية، في منطقة البلقان شمال غرب روسيا والى رومانيا، على البحر الأسود بالقرب من السواحل الروسية.
وهي الخطوات التي شكلت عملياً حصاراً بحرياً لروسيا، في الشمال والجنوب، واصلته واشنطن، في العقدين الماضيين، بتكريس نظام نازي في أوكرانيا الروسية الأصل والمنشأ، وشروعها (واشنطن) في تحضير أوكرانيا، سياسياً وعسكرياً، لتصبح منصة انطلاق للعدوان ضدّ روسيا.
لكن روسيا قد أفشلت هذا المشروع، عندما اتخذت قرارها، بالتصدي لمشاريع إشعال الحروب الأميركية، بتاريخ 24/2/2011، وبدأت عمليتها العسكرية الخاصة في الدونباس.
6 ـ أثبتت روسيا، من خلال مجريات الميدان العسكري قدراتها الفائقة على التحكم بالمبادرة الاستراتيجية وتوجيه المعركة العسكرية لخدمة المشروع السياسي الروسي، الهادف الى ضمان الأمن القومي الروسي، واجتثاث جذور التشكيلات النازية التي تجثم على صدر الشعب الأوكراني وضمان الأمن والاستقرار لجميع أقطار القارة الأوروبية.
علماً انّ الرسالة التي يجب على من يطلق عليهم اسم: قادة الاتحاد الأوروبي ان يقرأوها تقول بانّ الجيش الروسي حالياً ليس بحاجة لحشد ملايين الجنود وعشرات آلاف المدافع والدبابات والطائرات لفتح برلين وباريس (مرة أخرى بعد فتح سنة 1814 إذا ما تطلب الأمر) وذلك لأنّ بضع غواصات من طراز بيلغورود وصواريخ سارمات وافانغارد النووية الاستراتيجية، ومعها صواريخ كينغال (الخنجر) وبضع دبابات من طراز تيرمينيتور / Terminator / الأسطورية قادرةً على إنجاز المهمة.
لذلك على ماكرون وشولتس وأسيادهم قراءة التاريخ جيداً وعدم استفزاز الدب الروسي القادر على سحق كلّ من يحاول الاعتداء على مصالحه وبيئته.
بعدنا طيّبين قولوا الله…
محمد صادق الحسيني