الحرب الأميركية على روسيا والتصدع المقبل في أوروبا
الحرب الأميركية على روسيا والتصدع المقبل في أوروبا
يحفل تاريخ الولايات المتحدة بشكل خاص بالمقارنة مع تاريخ كل الشعوب، بسجل وحشي في شن الحروب وفي دفع الشعوب والجيوش إلى القتال بعضها ضد بعضٍ، لحماية دورها في السيطرة على مقدرات الجميع، فهي التي أشعلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الحرب في بداية الخميسينات من القرن الماضي بين شعب كوريا، وفي الستينيات بين شعب فيتنام، وبين شعوب أميركا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات، وبين شعوب منطقة الشرق الأوسط في الثمانينيات والتسعينيات، وها هي تشعل الحرب بين أوكرانيا وروسيا في هذه الأوقات، وربما يصعب الاعتقاد بأن تتيح الإدارة الأميركية فرصة لأي تفاوض بين أوكرانيا وروسيا بعد النتائج الميدانية العسكرية التي فرضتها العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا وتغييرها لميزان القوى في الصراع العالمي الذي تقوده واشنطن لحماية نظامها وسيطرتها.
تستغل واشنطن استمرار الحرب غير المباشرة التي تشنها ضد روسيا للمحافظة على بقاء الدول التي جندتها معها في الجبهة نفسها التي شكلتها لمجابهة روسيا وحلفائها وتدرك أن كل تراجع أو تردد في الاستمرار بهذه الحرب سيجعلها تفقد عدداً من هذه الدول، وحينئذ لن يكون بمقدورها إدارة الحرب ضد روسيا بما يخدم إستراتيجيتها، ولذلك تخشى من أي مفاوضات تميل بعض الدول إلى اللجوء إليها مع موسكو لإيقاف الحرب.
هذا ما يمكن استخلاصه من التصريحات الأخيرة التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي توني بلينكين في خطاب ألقاه في فنلندا في الثاني من حزيران الجاري حين أعلن أن «الولايات المتحدة وحلفاءها وشركاءها ملتزمون بشكل ثابت بتقديم الدعم للدفاع عن أوكرانيا اليوم وغداً ومهما طال الزمن، ونعتقد أن الشرط المسبق للتفاوض الدبلوماسي والسلام الحقيقي هو وجود أوكرانيا أكثر قوة وأكثر قدرة على الردع والدفاع ضد أي عدوان في المستقبل»، بل إن بلينكين رفض أيضاً فكرة أي عملية «إيقاف مؤقت» للقتال قائلاً: «إن بعض الدول بدأت تدعو إلى إيقاف النار وتبدو هذه الدعوة منطقية وجذابة على الأرض لأنها توقف الحرب بين المتقاتلين، لكن إيقاف النار سيؤدي الآن إلى تجميد الوضع على الخطوط الميدانية الراهنة على الأرض ويعزز إدارة (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين على المناطق التي سيطر عليها، وهذا من شأنه إضفاء الشرعية على ما استولت عليه روسيا من أراض في أوكرانيا»، وبهذه السياسة يعلن بلينكين أن واشنطن وحلفاءها سيقاتلون روسيا حتى آخر جندي أوكراني، ولا يتوقفون بموجب هذه السياسة عن محاربة موسكو بجميع أنواع الأسلحة التي تقدمها أكثر من عشرين دولة، ما دام الأوكرانيون هم الذين يدفعون الثمن من دمائهم التي تراق ومدنهم التي يصيبها الدمار لمصلحة الولايات المتحدة.
يخطئ من يظن أن الجمهور الأوكراني لن يدرك هذه الحقيقة ونتائجها الكارثية على أوكرانيا، ومن الطبيعي أن يرفض استمرار حرب غير متوازنة مع قوة عظمى مثل روسيا، ولذلك من البدهي أن تعمل واشنطن ونظام كييف على قمع أي تحرك للجمهور أو لقوى المعارضة الأوكرانية يطالب بإيقاف النار وإجراء مفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني، فالولايات المتحدة كما يعلن بلينكين، تسيطر كلياً على القرار في هذا الموضوع سواء داخل مربع القرار في كييف أو مربع القرار عند الحلفاء الأوروبيين، وهذه السياسة تدل على أن واشنطن ستسعى ليس لإطالة زمن الحرب فقط، بل أيضاً لتوسيعها تدريجياً مادام توريط دول أخرى فيها سيحقق المزيد من المصالح الأميركية على حساب شعوب تلك الدول لاستنزاف روسيا وحلفائها، وهذا ما تشير إليه سلسلة المناورات العسكرية التي تقودها واشنطن مع دول عديدة مجاورة لروسيا وفي مناطق أخرى وتعمل في الوقت نفسه على منع أي رأي يدعو إلى المفاوضات وإيقاف النار بعد مصادرتها للقرار الأوروبي والأوكراني والخضوع المذل للعديد من دول أوروبا للإرادة الأميركية حتى الآن.
من المحتم أن تصطدم هذه السياسة الأميركية بموجب عدد من استطلاعات الرأي في أوروبا، بموقف بعض الدول التي تشعر حكوماتها أن معظم الرأي العام فيها يرفض استمرار الحرب ويرغب في إيقاف النار واللجوء إلى المفاوضات خوفاً من أي تصعيد يضع أوروبا على حافة حرب نووية تدفع ثمنها باسم المصالح الأميركية.
ويبدو أن هذا العامل هو الذي سيتحول إلى شعار انتخابي فعال في بعض الدول التي اقترب موعد دورة الانتخابات البرلمانية فيها مثل النمسا في تشرين الثاني المقبل، وسلوفاكيا في أيلول القادم، في ظل توقعات فوز أغلبية ترفض الخضوع للسياسة الأميركية، وحينئذ لن تستطيع واشنطن منع التصدع في ساحة حلفائها والخروج من دائرة الخضوع لها.
المصدر: الوطن