أفول الهيمنة الاقتصادية العالمية الأحادية
تُشير الوقائع التاريخية إلى أن من أسباب سقوط الإمبراطوريات، أنها تدمِّر نفسها بنفسها، وأنَّ سرعة التدمير تعتمد على الآلية التي تستخدمها كلُّ إمبراطورية في الهيمنة، وأنَّ الآلية الأميركية المعاصرة للهيمنة هي استخدام الدولار الأميركي في الهيمنة الاقتصادية والسِّياسية، وبعدها الهيمنة العسكرية على العالم.
بعد عقود من غطرسة الأميركي في أعقاب تفكيك الاتحاد السوفييتي، تظهر المنافسة مع صعود الصين الذي يمثل تحدياً اقتصادياً وجيوسياسياً، لقد حدَّدت أميركا الصِّين كمنافسٍ إستراتيجي لها في القرن الـ21.
قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير: «إنَّ أكبر التغيرات الجيو سياسية في هذا القرن ستثيرها الصِّين وأنَّ: العالم سيصبح ثنائي القطب، أو ربما متعدِّد الأقطاب، ونقترب من نهاية الهيمنة الغربية في السِّياسة والاقتصاد».
لحظة الغرور للأحادية القطبية الأميركية عبر قواعدها العسكرية في 70 دولة كشرطيٍّ للعالم، إضافة إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو»، الذراع العسكرية للهيمنة وأطماعه التوسُّعية شرقاً، كانت السَّبب المباشر للصِّدام الرُّوسي- الغربي في أوكرانيا، وصنّاع السياسات الأميركيون لا يترددون في تقويض دول أخرى عندما يناسب ذلك مصالحهم، وسجلهم حافل، وكان غزوهم العراق في 2003 انتهاكاً واضحاً لميثاق الأمم المتحدة.
في خطاب ألقاه أخيراً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وصف الصين، بأنها «التحدي طويل الأمد والأشد تهديدا للنظام الدولي»، وقد كشفت مجموعةٌ من الأحداث الأخيرة بداية التفكير في التمرُّد على الهيمنة الاقتصادية الأميركية، وفي مقدمها تحالف «بريكس»، وهو الحدث الأكثر سخونةً في الجغرافيا السِّياسية.
في عام 2006 وعلى هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، اجتمع وزراء خارجية كل من البرازيل وروسيا والهند والصين لإعلان تأسيس مجموعة «بريك»، وفي عام 2011 انضمت جنوب إفريقيا إلى هذا التكتل الرباعي، وغيّرت المجموعة اسمها إلى «بريكس».
«بريكس»، تكتل اقتصادي عالمي من شأنه أن يكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي وينهي نظام القطب الواحد الذي تتزعمه أميركا، وذلك من خلال التركيز على تحسين الوضع الاقتصادي العالمي وإصلاح المؤسسات المالية، وتعاون البلدان الأربعة فيما بينها لتحقيق ذلك.
تشكّل دول «بريكس» مجتمعة نحو 40 بالمئة من مساحة العالم، ويعيش فيها أكثر من 40 بالمئة من سكان الكرة الأرضية، وهي تهدف إلى أن تصبح قوة اقتصادية عالمية لمنافسة مجموعة السبع «G7».
تعمل مجموعة «بريكس» على تحقيق مجموعة من الأهداف والغايات الاقتصادية والسياسية والأمنية، ما يسهم في خلق نظام اقتصادي عالمي ثنائي القطبية، عبر كسر هيمنة الغرب بزعامة أميركا.
بعد الحرب الأوكرانية وما رافقها من إعادة تشكيل نظام عالمي جديد، ازداد الاهتمام بتكتل «بريكس»، وخاصة في ظل الاتجاه نحو تكتلات جيوسياسية واقتصادية جديدة، وأيضاً بحث روسيا عن شركاء داعمين لها في وجه العقوبات الاقتصادية الغربية.
كما تسعى دول مجموعة «بريكس» إلى إطلاق عملة موحدة بينها تنهي بها هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي، وتسابق دول «بريكس» الزمن، وخاصة روسيا، لإصدار هذه العملة الموحدة، بالنظر للعقوبات القاسية المفروضة عليها، ما يسهم بالحد من هيمنة الدولار الأميركي وتحكمه في الاقتصاد العالمي، في وقت يُعتبر فرصة مواتية لإصدار هذه العملة والاستفادة من التذمر المتزايد من السياسات الأميركية.
في أول زيارةٍ رسميةٍ للرئيس الصِّيني شي جين بينغ، بعد إعادة انتخابه للعهدة الثالثة، إلى روسيا في مارس 2023م، تم توقيع وثيقتين للتعاون أرستا أسس العلاقة بين البلدين، وتغيير القواعد التي تحكم النظام الدولي، وأهمية تعاونهما من أجل «إعادة التوازن للنظام العالمي، وحتمية الذهاب إلى عالمٍ متعدِّد الأقطاب».
لقد مثَّلت النتائج المخزية بعد 20 سنة من غزو أميركا لأفغانستان والعراق، الدعوة للاستيقاظ من وَهْم الهيمنة أحادية القطب، وقد بلغت ذروة ملامح ذلك الوَهْم بالانسحاب الأحادي الفوضوي والمهين من أفغانستان عام2021.
إنَّ الحرب الرُّوسية- الغربية في أوكرانيا هي معركةٌ وجودية، وقد صرَّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقول: إن انهيار الهيمنة الغربية بدأ بالفعل، ولا عودة عنه.
إن الآلية الأميركية المعاصرة للهيمنة، هي استخدام الدولار الأميركي كأداة إستراتيجية في الهيمنة الاقتصادية والسِّياسية التي تتراجع، ووصف المدير التنفيذي لأكبر البنوك الهندية عدي كوتاك، الدولارَ بأنه «أكبر إرهاب ماليٍّ في العالم».
سنشهد عالماً متعدِّد الأقطاب، خارج دائرة الهيمنة الغربية، وسيظهر قطبان آخران، وهما: روسيا والصِّين، كما ستظهر الهند كقطبٍ ثالث.
إن العالم ينتقل إلى واقعٍ جيوسياسيٍّ جديد، يشهد أفول الهيمنة الاقتصادية الأميركية الأحادية.
المصدر: الوطن