تحرير العقول من الاحتلال
اعتاد كثيرون عبر عقود من الزمن على تصديق كل ما تبثه وسائل الإعلام الغربية، وكأنها كتاب مقدس لا يرقى إليه الشك، وقد يعود السبب في ذلك من ناحية أخرى إلى فشلنا في تقديم روايتنا عن أي حدث يتعلق بنا بموضوعية وعلمية، وإقناعنا لجمهورنا الذي كان يضيع بين أخبارنا المقتضبة التي لا تتضمن أي معلومة وأدلة، وبين أخبار الوكالات الغربية، وتفصيلاتها التي قد يكون قسم منها مدسوساً، ومضللاً، ليقع الجمهور تحت تأثير وسيطرة هذه المصادر الغربية أو غيرها، ولتُحتل عقولهم بمصطلحات وأفكار خطيرة.
مناسبة الحديث عن تحرير العقول هو اللقاء الذي جرى يوم 8 آذار الجاري ليلاً بين أمين عام حزب الله حسن نصرالله ومجموعة كبيرة من الخبراء والمحللين السياسيين الأعضاء في الرابطة الدولية، الذين عقدوا مؤتمرهم الأول في بيروت يومي 7 و 8 آذار الجاري، إذ ركز نصر الله على قضية تحرير العقول في معركتنا الكبرى التي نخوضها على صعيد الإقليم والعالم للخلاص من أشكال الهيمنة الأميركية التي تريد لنا أن نأكل ونشرب، ونلبس، ونتعلم ما يريدون، وأن نقلد طرق تفكيرهم، ونتمثل قيمهم، وعاداتهم، وأفكارهم، وفي هذا استعمار للعقول وهيمنة عليها بهدف جرها حيث يريدون.
سأحاول في هذا المقال التطرق إلى فكرة طرحها نصر الله والتوسع فيها، إذ قال إن موفداً أميركياً وهو صحفي لبناني الأصل أميركي الجنسية، نقل له رسالة من نائب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، ديك تشيني، مضمونها أنكم إذ أرحتم كيان الاحتلال الصهيوني خذوا ما تريدون، وأبقوا سلاحكم معكم، وأفعلوا ما تريدون في لبنان، وبالطبع فإن هدف هذه الرسالة كان ضمان جانب المقاومة مع بدء مشروعهم للهيمنة على المنطقة بعد احتلال أفغانستان، ثم العراق، وبسبب رفض حزب الله لمضمون هذه الرسالة كانت لاحقاً حرب تموز 2006 كمخاض صعب لولادة شرق أوسط جديد كما قالت وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق كوندوليزا رايس آنذاك، وكذلك الأمر بسبب رفض الرئيس بشار الأسد لشروط وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول كانت وما زالت الحرب على سورية منذ عام 2011 بكل الأدوات والوسائل.
أشار نصر الله في حديثه إلى أن الأميركي لا يهمه أبداً المذاهب أو الطوائف، ولا لون اللفة التي على رأسك إن كانت سوداء، أم بيضاء، إن ما يهمه هو تنفيذك لأوامره، وخضوعك لمخططاته، أما الباقي فهي أدوات للهيمنة على العقول واحتلالها.
وإذا أردت التوسع في هذه النقطة المهمة فهذا سيدفعني للعودة قليلاً للتاريخ لأخذ بعض الأمثلة لتعميق هذه الفكرة، فالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر هُوجم من قبل الغرب لأنهم وجدوا فيه قائداً عربياً مصرياً يطرح مشروعاً يهدد مصالحهم، وتحولت شخصيته إلى قدوة لجيل من الشباب العربي لعقود من الزمن، ولا تزال، لكن أحداً لم يكن ليشير إلى انتماء عبد الناصر المذهبي، وأما الرئيس المصري الأسبق أنور السادات فقد كان يلقب نفسه بالرئيس المؤمن، وتحول إلى صديق حميم للغرب لأنه زار القدس المحتلة، ووقع كامب ديفيد، وأراح إسرائيل، وأيضاً لم يكن يهم أميركا إسلامه، أو إيمانه، أو مذهبه، طالما أنه يخدم المصالح الأميركية، وأما شاه إيران فقد كان من أبوين شيعيين، وكان يزور المقامات ويصلي، وكذلك زوجته التي كانت تزور النجف وكربلاء، ومع ذلك لم يكن هذا يهم الأميركي، إذ كان يسمى بـ«شرطي الخليج»، وكان خادماً للمصالح الإنكليزية الأميركية هناك، وعندما أطاحت به الثورة الإسلامية في إيران لم يجد مأوى له لدى واشنطن أو لندن، وتُرِكَ لمصيره، وأما مرشد الثورة الإيرانية الراحل الإمام الخميني فلأنه أطلق مشروعاً واسعاً جوهره تحرير فلسطين، وإعلان الاستقلال التام لإيران، والعمل على نهضتها في المجالات كافة، فقد شنت حروباً ماتزال مستمرة حتى اليوم ضد إيران، وتحولت إيران إلى عدو أساسي مفترض للمنطقة بهدف تدمير العرب والإيرانيين عبر خلق الفتن والاضطرابات لعقود طويلة، أي إن المذهب، والدين لا علاقة له بالأمر بالنسبة لأميركا، وإنما المصالح، ومدى الخضوع للإرادة الأميركية الصهيونية بشكل عام.
تحول الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لزعيم عربي أول، وصاحب القادسية عندما هاجم إيران في حرب ظالمة استمرت ثماني سنوات دمرت العراق وإيران آنذاك، وكان عنوان حربه «قومياً مذهبياً» ليكتشف الجميع لاحقاً أنها كانت تطبيقاً لنظرية «الاحتواء المزدوج» الأميركية لضرب قوتين أساسيتين في الخليج، وتدميرهما، ثم فيما بعد لم يشفع ذلك لصدام من أن يتحول لعدو أساسي للغرب فيما كان يعتقد أواخر السبعينيات أنه صديق ومقرب للغرب، أي إن مذهب صدام وإسلامه لم يكن لهما علاقة في الأول، ولا في الآخر.
في الحالة الروسية مثلاً كان الرئيس السوفيتي الاخير ميخائيل غورباتشوف، ومن بعده الرئيس الروسي الأول بوريس يلتسين صديقان لواشنطن والغرب، وكانت المعلّقات تُنشر عنهما في المجلات الغربية، لأنهما خدما مصالح هذا الغرب، بينما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم تشيطنه وسائل الإعلام الغربية لأنه قائد قوي يدافع عن مصالح روسيا وشعبه، ولا علاقة هنا لمسيحية بوتين، أو أرثوذكسيته بالأمر أبداً، ذلك أن يلتسين كان كذلك.
أستطيع أن أضرب مئات الأمثلة والنماذج لتفكيك فكرة الطوائف والمذاهب والإثنيات وغيره من الأدوات التي تستخدمها وسائل الإعلام الغربية، ومراكز بحوثه لاحتلال عقولنا بأفكار مريضة لا أساس علمياً لها، فالانتماء الطائفي أو المذهبي يأتيك بالمصادفة التاريخية من أبويك، لكنه أمر لا يعني قوى الهيمنة والاستعباد سوى كأداة للتضليل والخداع والفتنة والسيطرة.
كما أن هذا الانتماء لا علاقة له بالخيانة، أو الارتباط بالمشروعات الاستعمارية، إذ إن هناك مئات الأمثلة أيضاً على خونة لأوطانهم من مختلف المذاهب والأطياف والإثنيات، ومحاولات تقسيمنا على هذا الأساس، هو احتلال يجب التخلص منه، والذهاب نحو الانتماء الوطني والقومي، ولذلك فإن العروبة كوعاء ثقافي حضاري هي الحاضن الأكبر لكل هذا التنوع، والغنى في بلادنا.
لنحرر عقول العامة لدينا من هذه اللوثة التي ضربتنا، وهو عمل طويل، يجب أن تقوم به النخب الفكرية والثقافية والسياسية، من خلال عمل منظم، وبرامج إعلامية، ودورٍ للأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات والمجتمع، بهدف تحرير عقولنا من احتلال آن له أن ينتهي.
المصدر: الوطن