آسيا والمحيط الهادئ تتحدى “الدولرة”
ترتبط العملات والنظام العالمي بشكل وثيق، وتلعبان دوراً مهماً في تشكيل الاقتصاد العالمي، وتسهيل التجارة والتمويل الدوليين، كما يؤثر النظام العالمي بدوره على قيمة واستخدام العملات المختلفة. ومن الجوانب المهمّة للعلاقة بين العملة والنظام العالمي هو هيمنة عملات معيّنة في النظام المالي العالمي، حيث يعكس الاستخدام المتزايد لليوان الصيني على غرار اليورو، في المعاملات الدولية، القوة الاقتصادية المتنامية للصين، وجهودها لتحويل النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
يعكس استخدام العملات المختلفة في آسيا التحالفات السياسية والاقتصادية، وتوازن القوى بين الاقتصادات المتقدمة والدول الإقليمية، ولاسيما الصين والهند وروسيا. وفي هذا السياق تسعى دول البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا إلى ترسيخ نفسها كمدافعين عن الجنوب العالمي، وتقديم نموذج مختلف لمجموعة السبع، حيث تتعاون مجموعة “البريكس” لإنشاء عملة موحدة في محاولة للابتعاد عن الدولار الأمريكي وتحدي تفوق أمريكا، وتتزامن هذه الخطوة مع مسعى موسكو وبكين لإزالة “الدولرة” كردّ فعل على العقوبات الغربية.
منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، كانت دول “البريكس” تنأى بنفسها بشكل متزايد عن الكتلة الغربية، حيث امتنعت الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا والصين عن المشاركة في العقوبات ضد روسيا، وأصبح هذا واضحاً بشكل متزايد، ولاسيما مع المستويات القياسية العالية للتجارة بين الهند وروسيا، فضلاً عن اعتماد البرازيل على الأسمدة الروسية.
ونظراً لكونها هي المحدّد لهذا الاتجاه، فقد كانت الصين تضغط من أجل إزالة “الدولرة” بعدة طرق من أجل تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي، وزيادة استخدام عملتها الخاصة، اليوان الصيني، في التجارة والتمويل الدوليين.
وعلى الصعيد الدولي ومع التركيز على آسيا، تسعى الصين إلى اتفاقيات مبادلة العملات وتسويات تجارية باليوان. علاوة على ذلك، فإن توجّه الصين نحو نظام “الدفع بين البنوك عبر الحدود” الذي يسمح بالتبادل المباشر للعملات والضغط من أجل إدراج اليوان في “سلة حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي” يعدّ أمراً مهماً في هذا الصدد. كما أن زيادة الاستثمار الصيني في الذهب كأصل بديل هو أمر مهمّ لتأثير القوة الناعمة الصينية في الجنوب العالمي والاقتصادات الخاضعة للعقوبات الأمريكية.
وبالمثل، تعمل الهند على الترويج لاستخدام الروبية في التجارة الدولية من خلال توقيع اتفاقيات مبادلة العملات مع دول أخرى، مثل اليابان والإمارات العربية المتحدة وجنوب آسيا، ولاسيما سريلانكا، وقد أطلقت الحكومة الهندية بالفعل خططاً مختلفة لتشجيع شراء الذهب، مثل نظام “سندات الذهب السيادية”.
يمثل فكّ “الدولرة” تحدياً للنظام الأمريكي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، كونه يقلّل من دور الدولار الأمريكي في التجارة الدولية، ليصبح عملة احتياطية أساسية، ويقلل الطلب على سندات الخزانة الأمريكية. وتجدر الإشارة إلى أنه من خلال تحدي هيمنة الولايات المتحدة في المالية العالمية، وتحويل القوة الاقتصادية بعيداً عن الولايات المتحدة، يحدث تحول في النظام في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ونظراً لأن الدول الآسيوية أصبحت أكثر تكاملاً اقتصادياً، وأقل اعتماداً على الولايات المتحدة، فإن ميزان القوى السياسية والاقتصادية في المنطقة يتحول بعيداً عن الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى ذلك، يعدّ إلغاء “الدولرة” في آسيا جزءاً من اتجاه أوسع لتعدّد الأقطاب في النظام المالي العالمي، مع ظهور قوى اقتصادية جديدة تتحدى الولايات المتحدة وهيمنتها على النظام العالمي.
يعدّ النظام في آسيا أمراً حاسماً للنظام العالمي ككل، لأن آسيا هي المنطقة الأكثر اكتظاظاً بالسكان، والأكثر أهمية من الناحية الاقتصادية في العالم، حيث يمكن أن يؤثر ميزان القوى في آسيا على السياسة العالمية، والأمن والديناميكيات الاقتصادية.
توجد العديد من القوى الكبرى في آسيا، مثل الصين واليابان والهند وروسيا والتي تتمتع بقدرات عسكرية وتأثير اقتصادي كبير، ويمكن أن يكون لأفعالها آثار كبيرة على بقية العالم. على سبيل المثال، أدى صعود الصين الاقتصادي وتحديثها العسكري إلى تغيير ميزان القوى في آسيا، وساهم في زيادة نفوذ الدولة على الصعيد العالمي. علاوة على ذلك، تعدّ آسيا أيضاً موطناً للعديد من القضايا الجيوسياسية الجارية، بما في ذلك التوترات في شبه الجزيرة الكورية، والنزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، والصراع المستمر بين الهند وباكستان حول كشمير.
إن لكلّ هذه القضايا القدرة على التصعيد إلى صراعات أكبر، وخلق عدم استقرار يمكن أن يمتد إلى أجزاء أخرى من العالم. ولذلك، فإن النظام في آسيا أمر بالغ الأهمية للاستقرار الشامل للنظام العالمي، وفي حال كان هناك عدم استقرار أو منافسة أو صراع في آسيا، فيمكن أن يكون لذلك عواقب بعيدة المدى على بقية العالم.
المصدر: البعث