30 عاماً على "أوسلو".. القضية الفلسطينية إلى أين؟
على المستوى الداخلي الفلسطيني، أدّت اتفاقية أوسلو إلى حدوث شرخ داخلي فلسطيني، وكانت السبب الأهم في الخلافات الفلسطينية الداخلية.
بعد ثلاثين عاماً على توقيع اتفاقية "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، تراجعت القضية الفلسطينية إلى مستويات في غاية الخطورة، بعد تَأَكُّل المشروع السياسي الذي قادته منظمة التحرير، إذ لم يبقَ من الاتفاقية سوى هيكل لسلطة إدارية وأمنية لحكم ذاتي، لا ولن يرقى إلى مصاف "الدولة".
في 13 أيلول/سبتمبر 1993 وقّع الفلسطينيون والاحتلال اتفاق "أوسلو، وهو ما أدى إلى تأسيس السلطة الفلسطينية، كخطوة أولى نحو إقامة "دولة" فلسطين، طبقاً لقرارات مجلس الأمن، إلّا أنَّ من يشاهد الوضع اليوم يدرك أنّه لم يعد هناك من يطرح حلولاً للفلسطينيين، في ظل حكومات إسرائيلية تعمل على حسم الصراع، وخصوصاً في قضاياه الجوهرية، مثل القدس واللاجئين والاستيطان.
الحالة التي أفرزها اتفاق أوسلو لم تعد تحمل بعداً سياسياً للفلسطينيين، أو مشروعاً حقيقياً يمكن الارتكاز عليه، أو العمل من أجله، بل باتت عبئاً على الفلسطينيين بعد أن دخلت في مشروع التسوية الذي تمَّ فيه التنازل عن جزء كبير وأصيل من الحقوق الفلسطينية في الأرض والسيادة والعودة، في مقابل وعود لم ينفَّذ منها شيء.
مشروع اتفاقية أوسلو لم يكن سوى مشروع تسوية بين قوي وضعيف، أقرَّ فيه الضعيف بأحقية الاحتلال الإحلالي المغتصب لحقوقه، في مقابل أن يعترف الاحتلال بأنَّ منظمة التحرير هي الممثل الشرعي للفلسطينيين، وأنَّ هناك إمكاناً لإقامة دولة فلسطينية، لكن بعد ثلاثين عاماً لم يبقَ سوى اعتراف منظمة التحرير بـ"دولة" الكيان، بينما لم يحصل الفلسطينيون إلَّا على سلطة حكم ذاتي لا تمتلك من مقومات السيادة أي شيء.
بعد ثلاثين عاماً لم تُفْضِ "أوسلو" إلى حلول نهائية، وتنصَّلت حكومات الاحتلال، جميعها، من بنود الاتفاقية، بينما لا يزال بعض البنود التي تخفّف عن كاهل الاحتلال قائمة حتى يومنا الحالي، في الجانبين الأمني والاقتصادي. فالاحتلال أخلى جزئياً مسؤولياته تجاه الفلسطينيين، انطلاقاً من أنه قوة احتلال، كما في القانون الدولي، بينما لا يزال الفلسطينيون يؤدّون الدور الخدمي والدور الأمني بدلاً منه.
تُعَدّ اتفاقية أوسلو كارثة في تاريخ الصراع بين العرب و"دولة" الاحتلال، إذ إنَّها فتحت الباب لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. وبعد الاتفاق ذهبت عدة دول عربية إلى إقامة علاقات سرية بالكيان، وتحوّلت مؤخراً إلى علاقات علنية، ضمن ما أُطلق عليه "الاتفاقات الإبراهيمية". والأخطر من ذلك أنَّ الاتفاقية أضعفت القوة التي كان يمتلكها الفلسطينيون في التأثير في الدول العربية. وبكل بساطة، أصبحت مجموعة من الدول العربية تتجاوز القضية الفلسطينية وتقيم علاقات مباشرة بالكيان بعيداً عن التعهدات السابقة، والتي مفادها أن لا تطبيع قبل حلٍّ نهائي مع الفلسطينيين.
على المستوى الداخلي الفلسطيني، أدّت اتفاقية أوسلو إلى حدوث شرخ داخلي فلسطيني، وكانت السبب الأهم في الخلافات الفلسطينية الداخلية، والتي وصلت إلى حالة الانقسام المستمر. وبات الفلسطينيون ببرنامجين متباينين (المفاوضات في مقابل المقاومة المسلحة)، لكن بعد ثلاثين عاماً، باتت أغلبية الفلسطينيين لا تؤمن باتفاقية أوسلو وببرنامجها السياسي، وبات ثلثا الفلسطينيين يؤمنون ببرنامج المقاومة.
بعد مضيّ ثلاثة عقود على توقيع اتفاقية "أوسلو"، ما زالت قيادة السلطة الفلسطينية متشبثة بها بسبب ارتباط المصالح الشخصية لقيادتها بالهيكل الذي أنتجته الاتفاقية. وفي المقابل، نشأ جيل فلسطيني جديد يؤمن بأنَّ الحل الوحيد هو مواجهة الاحتلال، وأنَّ "أوسلو" وما أفرزته لا يخدمان القضية الفلسطينية، وأنَّ الطريق الصحيح هو حمل السلاح في وجه الاحتلال، وجعل ثمن وجوده كبيراً عليه.
من ناحية ثانية، بعد "أوسلو" تعزَّز الاستيطان في الضفة الغربية، وزاد عدد المستوطنين على 850 ألف نسمة في الضفة، وصادرت "إسرائيل" أكثر من 70% من أراضي الضفة بطريقة معلنة وطريقة غير معلنة، وطرحت قضية ضم الضفة الغربية، وبات الفلسطينيون يعيشون في مدن منعزلة يستحيل معها إمكان إقامة دولة.
اتفاقية "أوسلو" لعنة أصابت القضية الفلسطينية، وأدّت إلى تراجع كبير للقضية الفلسطينية في مختلف المستويات، وحوّلت مشكلة الفلسطينيين، في نظر كثير من العرب والمجتمع الدولي، من قضية شعب وأرض محتلَين إلى قضية اقتصادية ـ معيشية.
في الواقع، إنّ جميع الفلسطينيين مُجمعون على أنَّ اتفاقية أوسلو ماتت ودُفنت منذ زمن، إلّا أنَّ هناك جزءاً آخر ما زال متشبّثاً بإفرازاتها، ولديه أمل بشأن إعادة إحيائها، ولا يرغب في إصلاح الخلل الذي تسببت به هذه الاتفاقية تجاه القضية الفلسطينية.
اليوم، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام تحدٍّ كبير وخطير في مواجهة حكومة يمينية متطرفة، تحاول حسم الصراع وتثبيت وقائع جديدة على الأرض، وهرولة عربية إلى التطبيع مع الاحتلال. وكل هذا يحتّم الاتفاق على استراتيجية وطنية جديدة تكون جامعة وشاملة للفلسطينيين كافةً، ويمكن من خلالها تقييم المرحلة السابقة، والانطلاق ببرنامج مقاومة متفق عليه ليكون نواة لتحرير فلسطين.
أيمن الرفاتي