جنين.. عبقرية الزمان والمكان
جنين.. عبقرية الزمان والمكان
الصمود الأسطوري في جنين سيترك أثره على كل ما يرتبط بالصراع مع العدو الصهيوني سواء على جبهة الحرب، أو في دهاليز ما يسمّى "السلام".
في العام 2002 شنّت قوات الاحتلال حملة عدوانية على مخيم جنين بهدف اجتثاث حالة المقاومة، وذلك بعد العملية البطولية التي نفّذها المقاوم الفلسطيني عبد الباسط عودة في فندق بارك في نتانيا، وأدت إلى مقتل 30 مستوطناً صهيونياً على الأقل. يومها أعلن رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون إطلاق عملية “الدرع الواقي” التي بدأت من مدينة طولكرم، وامتدت إلى جميع أنحاء الضفة الغربية حتى اصطدمت بالمقاومة الأسطورية لمخيم جنين. ومنذ ذلك التاريخ تحوّل مخيم جنين إلى أيقونة للصمود الفلسطيني، بل وحتى صمود كلّ الثوار والأحرار في كل مكان في العالم. أُنتجت أفلام عن جنين، وأطلقت عليها أسماء من قبيل “جنين غراد” في استعادة لتاريخ صمود مدينة ستالينغراد في الحرب الوطنية العظمى في الاتحاد السوفياتي، و”عنقاء الرماد” في استعادة لأسطورة العنقاء التي تنتمي إلى السواحل العربية وفي مقدّمتها السواحل العربية الفلسطينية.
منذ تلك اللحظة والعدو يحاول في كل مرة يجتاح فيها جنين تصوير الأمر على أنه عملية عسكرية محدودة تحقّق أهدافها، وفي كل مرة يجترح المقاومون المعجزات ويلقنون العدو درساً في الصمود والتضحية. ان عبقرية زمان جنين لم تكن في استعادة التاريخ فقط، ولكن في صناعة المستقبل أيضاً. صادف في الفترة نفسها انعقاد القمة العربية في بيروت، وهي القمة التي ستنتج عنها “مبادرة السلام العربية” سيئة الصيت. كانت الرسالة واضحة؛ الخيار الفلسطيني هو مقاومة الاحتلال، والحق الفلسطيني الأول هو الحق بالتحرير.
عشرون عاماً مضت، فعل فيها الانقسام الفلسطيني فعله في المقاومة في الضفة الغربية، لكن كما العنقاء ولد جيل جديد ارتقى فوق كل الخلافات والانشقاقات، وعاد مخيم جنين إلى الواجهة مجدداً مرتبطاً باسم “كتيبة جنين”. رغم أن تأسيس هذه الكتيبة ارتبط بحركة الجهاد الإسلامي (سرايا القدس) إلا أن آلية عملها وتواصلها مع الحالة المقاومة الناشئة في الضفة الغربية بعد معركة سيف القدس، جعلت العدو يدرك خطرها ويسرع إلى تصفية قادتها، فكانت عملية اغتيال الشهيد جميل العموري مؤسس كتيبة جنين مع رفيقه وسام أبو زيد في حزيران/يونيو 2021. لكن الأحداث تصاعدت، وجاءت عملية الشهيد رعد خازم في شارع دزينغوف لتقول إن المقاومة في مخيم جنين متصاعدة وتنذر بتطورات خطيرة على الأرض.
تصاعدت الاعتداءات الإسرائيلية على مخيم جنين فكان الاجتياح في كانون الثاني/يناير 2023، والذي خلّف 10 شهداء، وعادت قوات الاحتلال لاجتياح المخيم في حزيران/يونيو الماضي وسقط 6 شهداء بعد معركة بطولية فاجأ المقاومون خلالها العدو بتطوير عبوات ناسفة متقدمة أدت إلى تدمير آليات مدرعة ثقيلة، في سيناريو أعاد إلى أذهان العدو عمليات المقاومة بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982.
وكأنّ الزمن الفلسطيني توقّف حتى أعاده مخيم جنين إلى الدوران، فقد تصادف، مرة أخرى، أن تصاعدت الأحداث في مخيم جنين مع الاستعدادات المغربية لعقد “منتدى النقب”، الذي يعتبر استمراراً لقمة النقب التي عقدت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وضمّت وزراء خارجية الولايات المتحدة و”إسرائيل” والإمارات والبحرين ومصر والمغرب. لكن في ظل تصاعد المقاومة الفلسطينية وتأكيد حقها بالتحرير، لم يكن أمام وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة من خيار سوى تأجيل عقد المنتدى المشؤوم “لأن السياق السياسي لا يسمح بانعقاده”.
هذا الصمود الأسطوري للمقاومين في جنين سيترك أثره على كل ما يرتبط بالصراع مع العدو الصهيوني سواء على جبهة الحرب، أو في دهاليز ما يسمّى “السلام”. هنا تبرز عبقرية المكان؛ فهذا المخيم الذي بالكاد تصل مساحته إلى كيلومتر مربع واحد، شكّل على مدى عقدين شوكة في حلق الاحتلال اضطرّته إلى تجنيد كل أسلحته الفتاكة، وخيرة وحداته المقاتلة ما يكفي لمواجهة جيش، لكنه فشل في مواجهة بضع عشرات من المقاومين.
لقد أثبت المقاوم الفلسطيني أن كل بقعة من أرض فلسطين يقف عليها ممتشقاً سلاحه هي أرض محرّرة، وأن إرادة المقاومة تتفوّق على كل أسلحة العدو. أما الواهمون بالسلام، فإن وهمهم يقوم على إلغاء ظاهرة المخيمات أصلاً لأنها تعبّر عن الشتات الفلسطيني، فلا يتفق حضور اللاجئين مع أوهام السلام بكل تسمياته. وهذا السعي لإلغاء المخيمات يستهدف بشكل خاص المخيمات داخل فلسطين، لأن وجود هذه المخيمات مرتبط بالنكبة الفلسطينية عام 1948.
إن حضور المقاومة في مخيم جنين أو مخيم بلاطة أو أي مخيم آخر، يقول بوضوح أن من طردوا من بلادهم عام 1948 يناضلون في سبيل العودة التي لن تتحقّق إلا بالتحرير، وليس من خلال اتفاقات على إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال تقاسم الأراضي. وهكذا تحقّقت عبقرية المكان المقاوم الذي يقوّض أوهام الواهمين، ويعلن موقفه من فوهة بندقية ترفض الخضوع. وما نكتبه لا يكفي، مهما كان داعماً لموقف المقاومة وفصائلها. لا بدّ من التحرّك على الأرض، والعمل على دعم سكان المخيم إنسانياً. الحد الأدنى الذي علينا الالتزام به هو إعادة إعمار ما دمّره الاحتلال لتثبيت السكان في مخيمهم.