نهاية الدولار كعملة احتياطية
يتفقُ جميع خبراء المال والاقتصاد على تشخيص الأزمة المصرفية الراهنة، التي تعصف بالولايات المتحدة من خلال نقطتين:
الأولى هي ليست كأزمة الرهن العقاري التي وقعت عام 2008، بل هي أزمة نظام هيمنة الدولار الذي نشأ في عام 1971 كقاعدة للهيمنة الإمبريالية. وهي ليست أزمة الهيمنة الغربية، إنها نمط إنتاج موجود منذ 500 عام، ولم يعد قادراً على دعم تطور المجتمعات، بل أصبح عقبة تجبر البشر على النضال ضده.
الثانية هي اقتناع الولايات المتحدة التي يتملكها جنون العظمة، بأنها ضحية العداء العام المتنامي، وهو نوع من المؤامرة الخيالية التي من شأنها إعادة تجميع صفوفها خلف الصين المتحالفة مع روسيا. لكنها في الواقع ضحية سياساتها وعجرفتها، وضحية القوة التي تمتلكها كالسلطة التي يمتلكها ماكرون في فرنسا لتهيئة ظروف الفوضى ومحاولة قمع المتظاهرين، ولقيادة الفرنسيين إلى حرب الكل ضد الكل. وبحسب الخبراء، فإن الأزمة المصرفية ليست مشكلة تتعلق بجودة الائتمان، ولكنها تنبع من المهمة المستحيلة الآن المتمثلة في تمويل الديون الخارجية المتزايدة للولايات المتحدة.
لقد بات عصر الاحتياطيات على أساس الدولار وأسعار الصرف العائمة التي بدأت في 15 آب 1971، عندما قطعت الولايات المتحدة الارتباط بين الدولار والذهب، يقترب من نهايته، وآلام الانهيار ستنتقل من البنوك إلى الاقتصاد الحقيقي، الذي سيكون متعطشاً للائتمان، وستكون العواقب الجيوسياسية هائلة، حيث سيؤدي الاستيلاء على الائتمان بالدولار إلى تسريع التحول إلى نظام احتياطي متعدد الأقطاب، مع ميزة اليوان الصيني كمنافس للدولار. أما الذهب، فإنه سيلعب دوراً أكبر لأن النظام المصرفي بالدولار معطل ولا يمكن لأي عملة أخرى أن تحلّ محله. واليوم، من المتوقع أن يرتفع سعر الذهب أكثر فأكثر. وبالتالي، فإن الخطر الأكبر على هيمنة الدولار والقوة الاستراتيجية التي تمنحها لواشنطن ليس طموح الصين لتوسيع الدور الدولي لليوان، وإنما استنفاد الآلية المالية التي سمحت للولايات المتحدة بتجميع مركز أجنبي صاف سلبي قدره 18 تريليون دولار على مدى الثلاثين عاماً الماضية.
أمريكا الآن مدينة بصافي 18 تريليون دولار للأجانب، وهو تقريباً المبلغ التراكمي لتلك العجوزات على مدى 30 عاماً. تكمن المشكلة في أن الأجانب الذين يمتلكون أصولاً أمريكية يتلقون تدفقات نقدية بالدولار، لكن يتعيّن عليهم إنفاق الأموال بعملتهم الخاصة. ومع أسعار الصرف العائمة، فإن قيمة التدفقات النقدية للدولار باليورو أو الين الياباني أو الرنمينبي الصيني غير مؤكدة. لذلك يجب على المستثمرين الأجانب التحوط من دخلهم بالدولار، أي بيع دولارات أمريكية قصيرة مقابل عملاتهم الخاصة. هذا هو السبب في تضخم حجم سوق مشتقات العملات الأجنبية مع التزامات أمريكا تجاه الأجانب. لقد اقترضت البنوك الأجنبية 18 تريليون دولار من البنوك الأمريكية لتمويل هذه التحوطات ما خلق نقطة ضعف هائلة إذ بدا البنك في حالة مراوغة، كما فعل “كريدي سويس”، وبالتالي فإن البنوك ستسحب خطوط الائتمان في سباق عالمي.
قبل عام 1971، عندما أبقت البنوك المركزية أسعار الصرف ثابتة، غطت الولايات المتحدة عجز حسابها الجاري الصغير نسبياً عن طريق تحويل الذهب إلى البنوك المركزية الأجنبية بسعر ثابت قدره 35 دولاراً للأونصة. وبعدها سمح انتهاء الارتباط بين الذهب والدولار والنظام الجديد لأسعار الصرف العائمة للولايات المتحدة بإدارة عجز هائل في الحساب الجاري عن طريق بيع أصولها إلى العالم. كما كان سكان أوروبا واليابان يشيخون بشكل أسرع من الولايات المتحدة، وكان لديهم حاجة متزايدة إلى أصول التقاعد، هذا الترتيب يقترب الآن من نهاية فوضوية، ومن المؤشرات المؤكدة للمخاطر النظامية العالمية، وعلى وجه الخصوص سعر الذهب بالنسبة إلى وسائل التحوط البديلة ضد التضخم غير المتوقع. بين عامي 2007 و2021، تتبع سعر الذهب الأوراق المالية المرتبطة بالتضخم في الخزينة الأمريكية مع ارتباط بنحو 90%، خاصةً وأن سوق الذهب كبير جداً ومتنوع بحيث لا يمكن التلاعب به، ولا أحد يثق كثيراً في مؤشر أسعار المستهلك الأمريكي، وهو المؤشر الذي يتم على أساسه تحديد مدفوعات الخزانة الامريكية حول التضخم، ولن يخرج نظام احتياطي الدولار بفرقعة، بل بأنين، بينما ستتدخل البنوك المركزية لتجنّب أي فشل كبير. ورغم ذلك سوف تتقلص الميزانيات العمومية للبنوك، والائتمان للاقتصاد الحقيقي سوف يتقلص، والإقراض الدولي سوف يتبخر، وسيحلّ التمويل بالعملة المحلية محل الائتمان بالدولار. وقد حدث هذا في تركيا، التي انهارت عملتها خلال 2019-2021 حيث فقدت البلاد إمكانية الوصول إلى التمويل بالدولار واليورو.
من حسن الحظ أن العقوبات الغربية على روسيا خلال العام الماضي دفعت الصين وروسيا والهند ودولاً كثيرة إلى إيجاد ترتيبات تمويل بديلة، لذلك مع انخفاض الائتمان بالدولار، ستصبح هذه الترتيبات البديلة سمات دائمة للمشهد النقدي، وستستمر العملات الأخرى في تحقيق مكاسب مقابل الدولار.
المصدر: البعث