ملامح انكسار الهجوم الإسرائيلي
على عكس الدعاية الإسرائيلية المتواصلة بقرب السيطرة على قطاع غزة، وبعد 90 يوماً من الحرب، بانت ملامح انكسار الهجوم العسكري الكبير لجيش الاحتلال في القطاع من دون تحقيق أيٍ من أهداف الحرب التي أعلنها، وسط صمود أسطوري للمقاومة وأثمان كبيرة يدفعها الجيش الإسرائيلي.
في منطقة شمال قطاع غزة، ظهر انكسار العملية العسكرية في ظل عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على إحكام سيطرته على جميع المناطق التي دخلها على الرغم من استخدامه سياسة الأرض المحروقة والقصف السجادي المكثف، وبات مستنزفاً في هذه المناطق، وما زالت العمليات شديدة وقوية ومركزة في المناطق التي دخلها الاحتلال منذ الأيام الأولى للاجتياح البري، ولا يكاد يمر يوم دون إيقاع خسائر فادحة بهذه القوات.
وتظهر الشهادات التي قدمها العديد من جنود الاحتلال بأنهم يتعرضون لمقاومة شرسة غير متوقعة مليئة بالكمائن والضربات من الخلف، وباتت الدبابات لا توفر الحماية لهم في ظل تعرضها للاستهداف المتواصل من المقاومة التي استهدفت حتى الوقت الحالي أكثر من ألف آلية، وحيّدت أكثر من 10 آلاف جندي إسرائيلي مدرب، فيما يعترف العديد من الجنود بأنّ الخوف يتملك قلوبهم، وأن غالبيتهم عادوا بأمراض نفسية بعد المشاهد المخيفة داخل القطاع.
في مقابل ذلك، مثّل الصمود الأسطوري للمقاومة في قطاع غزة أكبر صدمة للمستويين السياسي والعسكري الإسرائيلي، فقد كان الجيش يتوقع أن تكون مهمته أقل صعوبة مما بدت خلال الهجوم البري، وهو ما جعل تفكيره في مرحلة ما بعد الحرب أمراً مشكوكاً في واقعيته، وبات يطرح حلولاً مثل إقامة شريط عازل داخل قطاع غزة لحماية المستوطنات، وهو أمر فاشل عملياتياً من المعلوم أن المقاومة لن تسمح بوجوده، وأن هذا الفعل هدفه إعلامي لإرضاء المستوطنين وتفاوضي مع قرب نهاية الحرب.
ملامح انكسار الهجوم البري تتنامى في ظل شعور الجنود الإسرائيليين بأنهم يتعرضون لخطر كبير، ولا يستطيعون تحقيق أي إنجاز يمكن أن يتفاخروا به وأن يسوقوه أمام المجتمع الإسرائيلي بأنهم أبطال، ولا يوجد هدف محدد لهم من قبل القيادة السياسية يمكن تحقيقه.
أحد أهم أسباب الانكسار هو حالة الخذلان الاستخباري التي بات الجيش الإسرائيلي يشعر بها، فجميع المعلومات الاستخبارية التي قدمها جهاز الأمن العام الإسرائيلي سطحية، وكثير منها مضلل وغير صحيح، ولا يرقى إلى حجم التحديات المفروضة أمام الجيش في الميدان.
هذا الأمر جعل قيادة الجيش والجنود في الميدان يشعرون بأنهم ذاهبون إلى المجهول، وأن نسبة عودتهم سالمين ضئيلة جداً، وهو ما جعل الجيش يشعر بالذهول مما يواجه من مقاومة، ويدرك أنه دخل وحلاً خطيراً سيؤدي الاستمرار فيه إلى انكسار وحدات وقوات كانت يتغنى بأن اسمها يرعب أعداء الكيان.
ملامح الانكسار ظهرت جلياً في صمود الفلسطينيين أمام الحمم التي يطلقها الجيش الإسرائيلي عليهم، بل والأشد عدم انكسار الفلسطينيين أو رفع أي مقاتل منهم الراية البيضاء، إضافةً إلى فشل الجيش في الوصول إلى قيادة المقاومة بمختلف مستوياتها. هذا الأمر لا يوجد أي أفق ميداني أو معلوماتي لدى كيان الاحتلال بقرب تحققه في ظل احتياطات كبيرة ومسبقة من المقاومة لسيناريو دخول الجيش.
الخسائر الكبيرة التي مُني بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة لا يحتملها المجتمع الإسرائيلي. إنها حقيقة حاول المستويان السياسي والعسكري التغطية عليها بأن هذه الحرب هي حرب وجودية، لكن المعطيات الداخلية لدى الاحتلال تشير إلى انزعاج وضغط كبير بدأت عائلات الجنود تمارسه لوقف الحرب حتى لا يقتل مزيد من الجنود. وقد أكد آخر استطلاع لصحيفة معاريف أن ثلثي المجتمع الإسرائيلي بات مقتنعاً حالياً بضرورة التوصل إلى حل يؤدي إلى وقف الحرب مع غزة.
بعد 90 يوماً من الحرب، أيقن كيان الاحتلال أنَّ إمكانية كسر المقاومة داخل قطاع غزة مستحيلة، وأن مهمة استعادة الأسرى أحياء بعيدة المنال. ولتحقيق جميع الأهداف المعلنة، قد يحتاج جيش الاحتلال إلى أشهر طويلة، وربما سنوات، وهو أمر لا يمكن تمريره بسبب تأثيرات الحرب في الاقتصاد العالمي والوضع الداخلي الأميركي والاستقرار الإقليمي والوضع الداخلي الإسرائيلي.
انكسار الهجوم الإسرائيلي لا يظهر فقط في الميدان، بل من خلال حديث الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين والمفكرين الإسرائيليين الذين باتوا يحذّرون من أن استمرار الحرب يعزز بشكل كبير الكره لـ”إسرائيل” لدى الفلسطينيين والعرب، وأيضاً لدى شعوب العالم، بسبب الفظائع التي ارتكبت ضد المدنيين والأطفال والنساء والمستشفيات والمرافق الطبية. هذا الأمر سيؤدي إلى تراجع الدعم الخارجي لكيان الاحتلال الذي يعد عمود بقائها في المنطقة.
وقد دلَّت تصريحات نائب رئيس هيئة الأركان في جيش الاحتلال السابق يائير جولان لصحيفة معاريف العبرية على حجم الأزمة التي وقع بها كيان الاحتلال بقوله: “مشكلة العملية البرية أن المستوى السياسي لا يوضح أهداف الحرب. التصريح بأنه سيتم سحق حماس لا يكفي، والسؤال: ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ لا مفر من التوصل إلى اتفاق مع الحركة، وليس مع أي فاعل آخر، لأنها الوحيدة القادرة على إطلاق سراح المختطفين”.
وأدى الضغط الذي تمارسه عائلات الجنود الأسرى لدى المقاومة إلى ضغط حقيقي أيضاً على المستوى السياسي والجيش بعدما انتقلت التظاهرات إلى مقر وزارة الحرب، وهو أمر غير مسبوق، وعدم اكتراث المستوى السياسي لمطالبهم سيؤدي إلى انكسار أحد أهم ركائز المجتمع الإسرائيلي القائم على أولوية الجندي واستعادته من المعركة مهما كلف الثمن.
المصدر: الميادين