كيف تسعى واشنطن لإفشال مباحثات صنعاء؟
يدرك صانع القرار السعودي أن الولايات المتحدة اليوم لم تعد كما كانت في السابق، وأنها في أوهن حالاتها وأضعفها.
تحاول الولايات المتحدة الأميركية إحباط أيّ مساعٍ لتحقيق السلام المنشود في اليمن. ذلك ما تشي به حركة الاتصالات والزيارات الأميركية للرياض، بالتزامن مع وجود الوفد السعودي المفاوض، والوساطة العمانية، في العاصمة صنعاء، من أجل استكمال المباحثات المركّزة بشأن الملفات الإنسانية وما يتفرع عنها، وما يستتبعها من خطوات تهيِّئ لمسار سلام شامل.
خلال الأيام الماضية، هاتف مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، وليَّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وتركز حديثهما على اليمن وإيران. وبخصوص الملف اليمني، ناقش الطرفان ما وصفاه بـ " الجهود الدبلوماسية الجارية لإنهاء الحرب على اليمن"، بحسب رواية البيت الأبيض، وعَدّا ما حدث، خلال العام الماضي، بموجب اتفاق الهدنة، "تقدماً ملحوظاً".
اتصال سوليفان يعكس خشية إدارة بايدن من استدارة سعودية جديدة بخصوص الملف اليمني، ومقاربته بطريقة متباينة عما تريده واشنطن، من تجميد موقت ضمن هدنة موقتة، أثبتت التجربة، خلال العام الماضي، أنها لا تلبّي مطالب اليمنيين واستحقاقاتهم، ورغبتهم في السلام. وبالتالي، فإن الولايات المتحدة تحاول الدخول على خط اللقاءات الثنائية الجارية بين صنعاء والرياض، لا لإصلاحها، وإنما لإفساد أي تفاهمات. ويعزّز ذلك ما عرضه سوليفان من دعم أميركي كامل لما وصفه بـ "الجهود السعودية الاستثنائية لمتابعة خريطة طريق أكثر شمولاً لإنهاء الحرب"، مع عدم إخفائه الرغبة في " خفض التصعيد في المنطقة، مع المحافظة على الردع ضد تهديدات إيران وأماكن أخرى"، في إشارة ضمنية إلى اليمن، وحنق واضح من التقارب السعودي الإيراني.
بومة الشؤم: إلى الخليج الفارسي دُرْ!
لم تكتفِ واشنطن باتصال سوليفان، بل أرسلت مبعوث بايدن إلى اليمن، تيم ليندر كينغ، إلى المنطقة، بهدف التشويش، والتأثير السلبي في التقارب السعودي الإيراني من جهة، وإحباط أيّ تفاهمات يمنية سعودية من ناحية أخرى، وإن كانت الخارجية الأميركية وضعت الزيارة للخليج في سياق ما وصفته بـ " دعم جهود تأمين اتفاق جديد للسلام الشامل" بين اليمن والتحالف السعودي. على أن التجربة، خلال الأشهر الماضية، أثبتت العكس، فزيارة ليندر كينغ، عقب زيارتَي الوفد السعودي الأولى والثانية، نهاية العام الماضي، ومطلع العام الجاري، أحبطت ما تم التوصل إليه من تفاهمات، وفق رئيس المجلس السياسي مهدي محمد المشاط، الأمر الذي يعكس رغبة أميركية واضحة في توريط السعودية أكثر في اليمن على رغم الخسارة السعودية في هذا العدوان من دون أي اعتبار للمخاطر التي تتهدد الأمن السعودي، كما أشار السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في خطابه بمناسبة الذكرى الثامنة للعدوان.
مقاربة أميركية لتفخيخ مسارات "السلام"!
ما هو ملحوظ ومؤكَّد أن واشنطن لا تزال متمسكة بمقاربتها المرفوضة يمنياً بشأن محاولة الربط بين المسارات العسكرية والإنسانية والسياسية دفعة واحدة، وظهر ذلك بوضوح في مضامين بيان الخارجية الأميركية، ومفاده أن ليندركينغ سيلتقي خلال زيارته "شركاء يمنيين وسعوديين ودوليين من أجل البحث في الخطوات اللازمة لتأمين وقف دائم لإطلاق النار، وعملية سياسية شاملة بوساطة الأمم المتحدة، مع ضمان استمرار الجهود لتخفيف الأزمة الاقتصادية ومعاناة اليمنيين". ووفق هذا الأمر، يبدو أن المبعوث الأميركي يسعى لضرب أيّ فرصة في السلام، بعد أكثر من عام على الجهود الدبلوماسية المكثفة، والجهود العمانية المشكورة.
وكان لافتاً توالي الاتصالات والزيارات الأميركية على نحو مدروس، إذ التقى عضو مجلس الشيوخ الأميركي، السيناتور ليندسي غراهام، محمد بنَ سلمان في العاصمة السعودية الرياض، تحت عنوان: "استعراض الصداقة بين البلدين، ومناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك"، والتي يأتي اليمن وإيران، بلا شكّ، في صلبها. وتأتي الزيارة في صلب هدف الإدارة الأميركية الحالية، في فرملة الاندفاعة السعودية نحو الصين، وتصفير مشاكلها مع إيران، ومباحثاتها المباشرة مع اليمن.
ويلاحَظ أن هذا الهدف يهيمن على عقلية صانع القرار الأميركي، ويحظى باهتمام واسع في كل المستويات القيادية ضمن إدارة بايدن كافةً، سياسياً ودبلوماسيّاً وتشريعياً وأمنياً، إذ سبقت هذا الحراك الأميركي النشط بأسبوع زيارةٌ غير معلنة لمدير وكالة الاستخبارات الأميركية للرياض، وليام بيرنز، التقى خلالها نظراءه السعوديين، ولم يُخف لهم إحباطه بسبب الاتفاق الذي توصلت إليه الرياض مع طهران بوساطة الصين، وأيضاً بسبب انفتاح المملكة على سوريا، والتفاهمات اليمنية السعودية. وجدّد التزام بلاده "التعاون الاستخباري"، مع الرياض.
السعودية تستنسخ النموذج التركي
يدرك صانع القرار السعودي أن الولايات المتحدة اليوم لم تعد كما كانت في السابق، وأنها في أوهن حالاتها وأضعفها. ويدرك الأميركي أن السعودي بات يناور بعيداً عن ملعبه مع الصين وروسيا وإيران، وربما في الملف اليمني، في محاولة ربما لاستنساخ النموذج التركي في سياسة تصفير المشاكل. لكن صنعاء، على ما يبدو، وخصوصاً فيما يتعلق بالملف اليمني، لم تصل إلى قناعة بأن السعودية باتت مستقلة في قرارها، ويمكن أن تسير في مسارات خارج السكة الأميركية، مع الأمل في أن تتجرأ السعودية وتثبت عكس ذلك، عبر اقتناص اللحظة التاريخية للخروج من أزمتها وورطتها في اليمن. وذلك لن يتأتّى إلّا بوقف العدوان ورفع الحصار، وسحب القوات الأجنبية، وجبر الضرر والتعويضات وإعادة الإعمار، وحل ملف الأسرى، وهي النقاط التي تمحور حولها النقاش السعودي اليمني في صنعاء.
نصيحة أخيرة!
المأمول أن يتنبّه النظام السعودي للمساعي الأميركية لعرقلة جهود السلام، وأن يتحرّر من حالة التبعية والرضوخ للأميركي، لأن ذلك سيرتد على السعودية ويكلفها فاتورة باهظه الثمن، وخصوصاً في اليمن، فالأميركي ينظر إلى الحرب على اليمن من زاوية مصالحه الاستراتيجية، ومنها أن اليمن بات بؤرة استنزاف للسعودية، بينما كانت السعودية، طوال الأعوام الماضية، مجرد زبون لشراء صفقات السلاح الأميركي، الذي لم يوفر له لا أمناً ولا حماية. وما مساعي الأميركي لعرقلة جهود الوساطة العمانية، ومحاولة يمننة الحرب، إلّا لإغراق السعودي في المستنقع أكثر فأكثر، وسيكون الأميركي أول من يبتزّ النظام السعودي على جرائمه في اليمن. وما على حكّام السعودية سوى قراءة التاريخ، وكيف تتصرف أميركا مع حلفائها. والعاقل من اتَّعظ من غيره.
علي ظافر