عامٌ مضى على الحربِ في أوكرانيا
مضى عام على الحرب في أوكرانيا؛ حرب عالمية على نطاق صغير أحد أطرافها أمريكا وأوروبا والغرب والناتو ككل، والطرف الآخر هو روسيا. ساحة المعارك تقتصر فقط على الجغرافية الأوكرانية، ووفقًا للقواعد غير المكتوبة بين الجانبين، يجب ألا تتجاوز ساحة المعركة الأراضي الأوكرانية؛ يجب ألا يغزو الأوكرانيون الأراضي الروسية ولا ينبغي لروسيا أن تمدد الحرب خارج أوكرانيا. أصبحت الحرب في أوكرانيا حرب استنزاف لروسيا بإطالة أمدها وهذا ما أرادته أمريكا من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، ففي كل يوم يمر أكثر من عمر الحرب كان الأمر أشبه بإنسان يسقط في حفرة وبدلاً من أن يحاول النهوض منها ُيحفرُ أكثر تحت قدميه وبالتالي يزيد من عمق الحفرة. بينما أراد بوتين نصرًا سريعًا يقلب النظام السياسي في كييف وضم بعض المناطق إلى روسيا ثم يغادر؛ لكن تبين أن حساباته خاطئة. كان يعتقد أنه بأوراق مهمة مثل الطاقة سيستخدم عصا الغرب ولن تتجاوز حدًا معينًا؛ لكن ذلك لم يحدث على هذا النحو وعزم الغرب على مواجهة واسعة النطاق ولكن مسيطر عليها في جميع المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية. في خطابه قبل أيام قليلة قال بوتين كلام واقعي وصحيح إن هدف الغرب هو "إلحاق هزيمة استراتيجية لروسيا" لكن مايمكنهم فعله الآن هو فقط المضي بخططهم الفاشلة .
خلال العام الماضي، قام بوتين باستخدام جميع أوراقه القابلة للمواجهة تقريبًا. وضع الغربيون ورقة الطاقة خارج حسابات بوتين قبل أن ترغب روسيا في استخدامها و وصل الأمر إلى درجة أن قامت أوروبا التي تعتمد على النفط والغاز الروسي، بتحديد سعر خاص للنفط الروسي وقللت بشكل كبير من اعتمادها على الغاز؛ إلى الحد الذي اضطرت فيه موسكو إلى بيع نفطها بأقل من السعر العالمي بـ20 إلى 30 دولارًا.
في الواقع يُظهر تهديد الكرملين المستمر باستخدام الأسلحة النووية أن خزائن أوراق الضغط الروسية ضد الغرب قد نفذت في هذه المواجهة المصيرية. نعم! كما خلقت الحرب في أوكرانيا العديد من المشكلات الاقتصادية لأوروبا وأمريكا، وحققت بعض الدول أرقامًا قياسية في التضخم والركود، ولكن من الواضح برأيهم أن هزيمة روسيا وإذلالها في أوكرانيا واستمرار الهيمنة الأمريكية في السياسة الدولية مستمرة، بمعنى آخر إبقاء العالم في ظل أحادية القطب يستحق هذه المغامرات والمشاكل.
اليوم الغرب يتحرك بذكاء وببطء. الهدف هو إذلال وهزيمة روسيا "تاريخياً" ومنعها من الوصول إلى موقع في هذه الحرب لإنها ستطلق عالم متعدد الأقطاب وتجعل الصين تسرع أكثر كما ستُخرجُ زمام السياسة الدولية من أيدي الولايات المتحدة. ومن هنا يبدو أن رغبة أمريكا هي الاستمرار في حرب الاستنزاف هذه لكن بإدارة متقنة ومسيطر عليها، بهدف سحق روسيا وإنهاء عصر البوتينية بطريقة ما. من ناحية أخرى وضع بوتين في موقف صعب فإذا أنهى الحرب دون إنجاز كبير، فستكون له هزيمة نكراء وستستمر العقوبات المميتة. وإذا واصل الحرب في ظل استمرار تسليح الغرب لأوكرانيا فلن تكون هناك فرصة كبيرة للحصول على إنجاز قيِّم، وهذا المستنقع يزداد عمقًا كل يوم. في الواقع إن انسحاب روسيا من اتفاقية "استارت نو" مع الولايات المتحدة بصرف النظر عن إنه تعبير عن غضب بوتين من الوضع الحالي هو إجراء لتحقيق نتائج مع بدء محادثات السلام والحصول على تنازلات في رفع العقوبات التي من غير المرجح أن تحدث بمجرد انتهاء الحرب.
يبدو أن أمريكا انتصرت حتى الآن في هذه الحرب فمن ناحية وَحدَ العالم الغربي تحت قيادته وأعاد إحياء الناتو. ومن ناحية أخرى جعلت أوروبا تعتمد على نفسها أكثر من أي وقت مضى من حيث الأمن والعسكري والاقتصادي (الطاقة).
بصرف النظر عن الحسابات الكلية مثل ربط مستقبل النظام أحادي القطب الأمريكي بمصير هذه الحرب فإن نتائج الانتخابات الأمريكية لعام 2024 تعتمد أيضًا على تطورات هذه الحرب. إن زيارة الرئيس الأمريكي إلى كييف في ذكرى الحرب هي تأكيد على تصميم الغرب على مواصلة دعمه لأوكرانيا ، فضلاً عن فشل نظيره الروسي في الإطاحة بالنظام الأوكراني المتحالف مع الغرب.
وكما إن انتصار روسيا في حرب أوكرانيا سيعيد تثبيت السياسة الدولية وتوازن القوى في العالم وسينهي أحادية القطب، فإن هزيمتها تؤدي أيضًا إلى استمرار هيمنة الولايات المتحدة والنظام أحادي القطب، وهذا كله إنذار للصين والتي لأسباب مختلفة لم تكن تريد أو لا تستطيع دعم روسيا. لكن الصين الآن قلقة من عواقب فشل روسيا في تبادل الوساطة حتى تجد لها مخرجًا لائقًا نسبيًا لتقليل من هذه العواقب.