"حلب الأوكرانية" بين تحصينات الناتو وتكتيك الروس الإغريقي
أثارت عملية إعادة انتشار قوات الجيش الروسي، على جبهات كييڤ وبعدها خاركوڤ/ ايزومي/ وخيرسون كثيراً من الجدل، بين المراقبين والمحللين العسكريين، عما إذا كانت تلك العملية، التي نفذتها القيادة العسكرية الروسية، بداية الخريف الماضي، كانت عملية إعادة انتشار مخطط لها ومسيطر عليها تماماً ومدروسة وتندرج في إطار خطة عسكرية، أعدّتها هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، أم أنها كانت نتيجةً لضغط عسكري وخسائر كبيرة، تعرّض لها الجيش الروسي على يد القوات المعادية، ايّ قوات كييف والغرب الجماعي النازية.
إلا انّ التحليل العلمي الموضوعي، لعملية إعادة الانتشار تلك، يوضح انّ ما حصل كان تطبيقاً لتكتيك عسكري قديم جداً، يعود استخدامه، لأول مرة، في معركة لويكترا (Leuktra) الإغريقية، وهي المعركة التي حصلت سنة 371 قبل الميلاد، بين جيش إسبارطة Sparta) وجيش ثيبا / Thebae اسمها الحالي Thiva (دولة إغريقية جنوب شرق اليونان).
علماً انّ هذا التكتيك يسمّى، في العلوم العسكرية، تكتيك القوات/ المعركة/ غير المتوازنة، واسمه بالانجليزية هو:Crooked Order of Battle
وقد اكتسب هذا التكتيك أهميته وشهرته، عبر العالم وخاصة عالم العلوم العسكرية، لأسباب عديدة، أهمّها التالية:
1 ـ انّ استخدامه بالشكل الصحيح يسمح لقادة الجيوش ان تتغلب على اختلال موازين القوى العسكرية مع العدو واستخدام القوات بأسلوب يضمن الانتصار على العدو المتفوّق، في العدة والعتاد، وذلك من خلال حشد القوة الأكبر للجيش على جبهة واحدة، او حتى على نقطة واحدة، وترك الميمنة والميسرة لبقية وحدات الجيش، مع التوقف عن شنّ عمليات هجومية في خطوط تلك القوات والاكتفاء بالدفاع عن مواقع تلك الوحدات.
2 ـ انّ استخدام هذا التكتيك ممكن أيضاً في حالات لا يعتريها الخلل في موازين القوى العسكرية لصالح العدو وانما تطبيقاً لخطة تهدف الى:
ـ استخدام أقلّ عدد ممكن، من القوات العسكرية المتاحة، وتقليل خسائر هذا العدد القليل من القوات الى الحدّ الأدنى.
ـ ومن اجل تحقيق هذا الهدف يتمّ تركيز الجهد الرئيسي للقوات المتاحة/ المستخدمة/ على قاطع واحد او حتى نقطة واحدة على الجبهة، مع الإبقاء على بقية القوات في مواقع دفاعية محصنة يسهل الدفاع عنها، أمام قوات العدو، دون التعرّض للخسائر.
3 ـ اما أشهر المعارك، التي استخدم فيها هذا التكتيك العسكري، في العصر الحديث فقد حصلت بتاريخ 5/12/1757، في مدينة: لويتِن/ Leuthen / في مملكة بروسيا (تسمّى بالانجليزية Battle of Leuthen)، في مواجهة جيش امبراطورية النمسا، الذي كان يضمّ 66000 جندي، بينما كان جيش بروسيا يضمّ 35000 جندي فقط. وهي إحدى معارك السنوات السبع في التاريخ الأوروبي لحقبة القرن الثامن عشر.
ونتيجة لاستخدام هذا التكتيك استطاع جيش بروسيا، الأقلّ عدداً، قتل 22000 جندي من الجيش الامبراطوري النمساوي وقتل الملك: كارل اليكساندر فون لوترينغن وتحقيق انتصار ساحق على الجيش الامبراطوري.
4 ـ إذن، فإنّ القتال بجزء قليل من القوات، كما تقاتل القوات الروسية في مدينة أرتيموڤيسك (باخموت باللهجة الأوكرانية) هي الطريقة الأنجع لتحقيق الأهداف التالية:
ـ الحفاظ على أرواح جنود الجيش الروسي وقدراته العسكرية. ولهذا الأمر، طبعاً، بعد استراتيجي لا بدّ من تسجيله، وهو النظرة الأعمق لاستخدام القوات بطريقة استراتيجية، على الرغم من انّ هذا الجزء من القوات يخوض معركة تكتيكيةً ليست استراتيجية.
إلا انّ القيادة الروسية لم تغفل اللحظة الاستراتيجية، عندما وضعت الخطط العسكرية لمواجهة الغرب الجماعي وعصابة النازيين في كييف، بل وضعتها على سلم أولوياتها، من خلال تعاملها مع المعركة الدائرة حالياً على أراضي أوكرانيا، على انها معركة تكتيكية في خضمّ معركة استراتيجية مع الهيمنة الأميركية وأدواتها كحلف شمال الأطلسي، ما يستدعي المحافظة على القوات لمراحل، قد تصبح ضرورية لاحقاً.
ـ تدمير قدرات العدو، البشرية والعسكرية/ التسليحية/ وذلك من أجل التقليل من استخدام القوات، في عمليات هجومية، إلا بعد التمهيد الناري الملائم، ايّ بعد تدمير قوات العدو في ايّ نقطة من نقاط الجبهة، وفي هذه الحالة فإنّ الحديث يدور عن جبهة أرتيموڤيسك/ باخموت.
وبكلمات أوضح فإنّ التكتيك، الذي نتحدث عنه، يرمي الى تحويل منطقة العمليات الى مقبرة لجنود العدو وأسلحته.
5 ـ وهذا ما نلاحظه بالضبط، في أرتيموڤيسك/ باخموت منذ أشهر، حيث يقوم الجيش الروسي بعملية تدمير ممنهجة لسلاح حلف شمال الاطلسي ولقوات كييف النازية، العميلة للحلف، على الرغم من انّ خبراء حلف الأطلسي العسكريين، وخاصة الضباط الألمان والفرنسيين، قد حوّلوا هذه المدينة الى قلعةٍ محصّنة، كان يفترض ان تشكل القوات النازية المرابطة فيها، الى جانب الحصون التي كانت مقامة في مدينة ماريوبول في الجنوب، رأس حربة للهجوم على الأراضي الروسية والتوغل فيها.
إذن الجيش الروسي قادر على السيطرة على مدينة أرتيموڤيسك/ باخموت/ لو أراد، إلا أنه مصمّم على استكمال عملياته في تدمير القدرات التسليحية لحلف شمال الأطلسي ودوله، بدليل انه يحافظ على طريق فرعي يسمح لفلول القوات النازية الأوكرانية بالانسحاب غرباً، دون معدات بسبب الظروف الجوية (الأوحال)، ولا تفصل ميمنة القوات، في شمال المدينة، عن ميسرتها جنوب المدينة، سوى مسافة كيلومترين فقط.
وهي قادرة، لو أرادت، تدمير هذه المسافة الفاصلة وإحكام الحصار على المدينة، إلا انّ هدف العمليات العسكرية، على هذا القاطع من الجبهة، أبعد من فرض حصار على المدينة.
6 ـ وبالعودة الى التكتيك أعلاه، فإنّ أحد أهمّ مرتكزاته هو مبدأ تدمير قدرات العدو الاستراتيجية، من خلال نقطة تكتيكية او قاطع عمليات تكتيكي، وذلك لتأمين الظروف الأكثر ملاءمة لإحداث انهيار شامل على جبهة العدو وخطوط دفاعاته، والتي سيقوم الجيش الروسي عند حصولها الى السيطرة الفورية على المدينة، والاندفاع غرباً، وعلى طول جبهة الدونباس، للسيطرة على كامل محافظتي لوغانسك ودونيتسك، وربما أبعد من ذلك إذا اقتضت ظروف الميدان ذلك.
اذ انّ قيام القوات المسلحة الروسية بتنفيذ ضربات صاروخية واسعة النطاق، في جميع أنحاء أوكرانيا، واستخدامها صواريخ كينغال الفرط صوتية لضرب غرف عمليات، يديرها ضباط من حلف الأطلسي بينهم أميركيون، وتدميرها والقضاء على من فيها، ربما يحمل رسائل واضحة الى من يعنيه الأمر، كي يفهمهما الغرب المتغطرس انّ موسكو قادرة وجاهزة للدفاع عن سيادة الدولة الروسية ووحدة اراضيها، وانّ حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، وترسانته العسكرية، سيهزمون كما سبق ان هُزم نابليون وزعيم النازية الألمانية ادولف هتلر، وانّ روسيا القوية سيكون لها دور ريادي في تشكيل العالم الجديد، كما كان للاتحاد السوفياتي دور ريادي في دعم حركات التحرر في آسيا وأفريقيا للقضاء على بقايا الاستعمار الغربي لدول تلك القارتين.
بعدنا طيبين قولوا الله…
محمد صادق الحسيني