بدأ عصر "اللادَوْلَرة" دولياً... هل ينجح؟
تُظهر اللغة الإعلامية السياسية المعاصرة أنها ولّادة غزيرة للمصطلحات الناجمة عن التطورات والأحداث المتسارعة، مؤكدة على الدوام أن اللغة حية ومواكبة لما يمر به العالم من مستجدات.
ومن المصطلحات الدارجة هذه الأيام اللادَوْلرة Dedollarisation، بما يشير إلى اتجاه عالمي متنامٍ يحفر في الواقع المالي الدولي. والدولار هو سيد العملات في التجارة الدولية، به يتم تسعير النفط والذهب وتُقوَّم العملات الأخرى والأصول به، ويُعدّ من العملات الاحتياطية في المصارف المركزية. غير ان واقع الدولرة الذي سيطر لعقود طويلة يتغير تدريجياً بفعل عوامل سياسية واقتصادية عدة.
استندت قوة الدولار الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى قوة اقتصاد الولايات المتحدة الذي استفاد من دمار اقتصادات الدول الكبرى المشاركة في الحرب، كما تم اتخاذه عملة موثوقة في حركة التجارة الدولية بعد تسعير الذهب والنفط به. بيدَ أن هذين العاملين طرأ عليهما تغيير وينبغي أن نراقب بعناية خط سيرهما المتصاعد. فقد أصيب الاقتصاد الأميركي بوهن في السنوات الماضية بسبب ضعف المؤشرات المالية لجهة العجز في الموازنة وتفاقم المديونية (ارتفع الدين العام في أمريكا بنحو خمسة أضعاف خلال 20 عاماً ليصل إلى 31.5 تريليون دولار اليوم)، ويضطر الكونغرس الأميركي كل عام الى رفع سقف الدين العام لتمكين الحكومة من الإنفاق على الإدارات الفيدرالية تحاشياً لتوقفها عن العمل، كما يقوم الفيدرالي الاميركي (البنك المركزي) بطباعة الدولار بكثافة لتغطية النفقات وهو ما أدى الى زيادة التضخم.
من جهة ثانية، أدت الحروب التجارية والاقتصادية التي خاضتها الولايات المتحدة ضد العديد من دول العالم إلى نفور متعاظم من هذه الممارسات المشبّعة بروح الإرغام والابتزاز السياسي والاقتصادي، فلجأت هذه الدول الى التخلي جزئياً عن الدولار في تعاملاتها التجارية وتنويع احتياطياتها من النقد الأجنبي. وتمت هذه الحروب تحت مسمى رفع الرسوم الجمركية على المنتجات الأجنبية تارة، وفرض العقوبات الاقتصادية على دول بعينها بسبب خلافات سياسية تارة أخرى، والمنافسة غير الشريفة في التعامل مع الشركات والاقتصادات الأخرى طوراً ثالثاً (مثال التعامل مع مشروع الحزام والطريق الصيني ومع شركة هواوي الصينية لاتصالات الجيل الخامس، والآن مع موقع تيك توك للتواصل الاجتماعي).
وفي الواقع، أسرفت الإدارات الأميركية المتعاقبة في استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية لإرغام دول أخرى على تغيير سياساتها، خاصة أنه يترافق مع مصادرة أصول خارجية للدول المعنية وقطع ارتباطها بنظام التحويل المالي سويفت. وتسببَ ذلك في توليد رد فعل عكسي تمثل بتنامي نهج التخلي عن الدولار عن طريق استخدام العملات المحلية للدول المعنية أو مقايضة السلع والخدمات أو استخدام الذهب تجنباً للوقوع تحت نيران العقوبات الاميركية في حال التعامل بالدولار. بل إن الكثير من الدول تقوم بتقليص احتياطياتها النقدية من الدولار الاميركي بسبب مخاوف متزايدة من انهيار محتمل للدولار على ضوء مؤشرات تراجع في الاقتصاد الاميركي. وفي هذا الإطار، انخفضت حصة الاحتياطيات التي تحتفظ بها المصارف المركزية بالدولار الأمريكي من 71 بالمائة في عام 1999 إلى 59 بالمائة في عام 2021، وفقاً لمسح أجراه صندوق النقد الدولي. وهذا النمط آخذ بالاتساع.
وساهمت الإجراءات الأميركية في دفع دول عدة لسلوك طرق بديلة بعيداً عن الدولار. على سبيل المثال:
- عملت إيران في فترة العقوبات الاميركية على بيع نفطها لشركات ودول عدة عن طريق المقايضة بسلع، أو بعملات بديلة، أو بالذهب.
- تحركت الصين التي أصبحت هدفاً رئيسياً للإستراتيجية الأميركية العدوانية لتقليل ارتباطها بالدولار، حيث بدأت عام 2018 في إبرام صفقات نفطية باليوان الصيني المدعوم بالذهب. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه نظيره الصيني شي جين بينغ في موسكو أخيراً إنّ بلاده "تؤيد استخدام اليوان الصيني في التجارة بين روسيا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية"، وهذا يعني أن الصين التي تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم وروسيا التي تُعتبر أكبر مصدّر للطاقة تحاولان سوياً التأثير على هيمنة الدولار على النظام المالي الدولي. كما اتفق الرئيس الصيني وولي العهد السعودي محمد بن سلمان مؤخراً على زيادة التعاون في مجال الطاقة والتجارة، بما في ذلك بيع النفط السعودي للصين باليوان. وتُعدّ هذه الخطوة ذات أهمية خاصة بالنظر الى ان السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، تعتمد عادة بيع النفط بالدولار الأمريكي. وفي كانون الثاني 2023، دخلت البرازيل والصين في اتفاقية مبدئية للتجارة بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار الأمريكي. وتُعتبر الصين أكبر شريك تجاري للبرازيل بحجم إجمالي بلغ 150 مليار دولار عام 2022.
وإلى جانب ذلك، يلاحظ أن الصين ودولاً اخرى بدأت خفض حجم استثمارها في سندات الديون الأميركية، وهي خطوة قد يكون لها آثار على وضع الديون الأميركية.
- دفعت حرب أوكرانيا دولاً عدة تتعامل مع روسيا الى إجراء مبادلاتها التجارية معها بالروبل أو بعملات وطنية أخرى. ففي 23 آذار 2022، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أمر يمنع الدول "غير الصديقة" (بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان) من شراء الغاز الروسي بأي عملة أخرى غير الروبل الروسي في أعقاب العقوبات التي فُرضت على روسيا بعد اندلاع حرب أوكرانيا. وفي آذار 2022، دخلت روسيا والهند في اتفاقية للتجارة الثنائية بالروبية والروبل. وفي تموز 2022، أجرت روسيا وإيران تعديلات على التجارة الثنائية لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، قبل أن تعلنا في كانون الثاني 2023 أنهما تخططان للتجارة بالعملات المشفرة المدعومة بالذهب كبديل للدولار الأمريكي. وفي آب 2022، اتفقت روسيا وتركيا على استخدام الروبل في تجارة الغاز الطبيعي. وفي تشرين الثاني 2022، أكد نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك أن جميع إمدادات الغاز إلى الصين عبر سيبيريا تتم تسويتها بالروبل واليوان. وكانت روسيا قد أعلنت في حزيران 2021 أنها ستلغي الدولار من صندوق الثروة الوطني لتقليل التعرض للعقوبات الغربية.
- قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد زيارة الى الصين ولقائه الرئيس جين بينغ الأسبوع الماضي إنه "يتعين على أوروبا تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، بما في ذلك تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في التعاملات المالية". وهذا يعني أن الأوروبيين والصينيين يحاولون إقامة أنظمة دفع دولية خارج نطاق SWIFT الذي يهيمن عليه الدولار.
- بدأت رابطة دول جنوب شرق آسيان (أندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، سنغافورة، تايلند، بروناي، فيتنام، كمبوديا، لاوس، ميانمار) مناقشات لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي واليورو والين والجنيه الإسترليني في المعاملات المالية والانتقال إلى التبادل بالعملات المحلية. وانطلقت هذه المناقشات بعدما أدى استمرار الفيدرالي الأميركي في رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم إلى هروب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة في آسيا لشراء السندات الأميركية ذات العائد المرتفع، ما تسبب في أضرار لعملات هذه البلدان واقتصاداتها، ودفعها بالتالي لبحث التعامل بالعملات الوطنية في مبادلاتها التجارية البينية.
- قررت فنزويلا في آب 2018 تسعير نفطها باليورو واليوان والروبل وعملات أخرى.
إضافة الى ما سبق، لجأت روسيا الى ابتكار نظام مطور لنقل الرسائل المالية (SPFS)، وهو بديل لنظام SWIFT. وكان النظام قيد التطوير منذ عام 2014، بعد أن هددت حكومة الولايات المتحدة بفصل روسيا عن نظام سويفت. وستدرس مجموعة البريكس (روسيا والهند والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا) في الشهور المقبلة إيجاد طريقة لإنشاء نظام دفع أكثر عدلاً.
وعلى رغم أن بعض المحللين يجادلون بأن التخلي عن الدولار كعملة رئيسية ستكون له على المدى القصير عواقب وخيمة على اقتصادات العديد من الدول التي تحتفظ باحتياطي ضخم من العملة الاميركية، كما يمكن أن يؤدي الى تقلبات غير مرغوبة في سوق العملات، فإن هذا المسار يصعب عكسه الآن في ضوء المنافسة الضارية بين الأقطاب الدوليين وظهور اتجاه قوي للتخلص من تبعات العقوبات الاميركية التي أضرت باقتصادات العديد من الدول، بما فيها دول حليفة للولايات المتحدة لها علاقات تجارية مع الدول التي تتعرض للعقوبات. ويقدَّر ان فوائد اللادولرة ستكون ملموسة على المدى البعيد، لا سيما أنها ستسهم في تحرير الاقتصاد العالمي من هيمنة الدولار والسياسات الأميركية التعسفية وتعيد تنويع الخيارات النقدية أمام الدول التي ترفض الإملاءات الأميركية.
علي عبادي