امريكا تسقط في وصفاتها الاقتصادية.. الكارثة قادمة
وقعت الولايات المتحدة في الفخ الاقتصادي الذي نصبته لدول العالم، كما وتوريطها لدول العالم بديون ناتجة عن السلوك الاقتصادي والمالي القاهر بحيث تعجز عن السداد، ومن ثم يجري اخضاعها سياسيا واجتماعيا.
اليوم يبدو ان الولايات المتحدة التي تسوّق انها اكبر اقتصاد حر في العالم، رغم انه قائم في اسسه على نهب الثروات الباطنية للدول المتدنية القوة الحامية والمناعة الوطنية المطلوبة، وقعت في شرك عدم القدرة على السداد وهي اليوم امام معضلتين، أزمة دستورية لا يعرف احد الى اين ستقود، ازمة سداد الديون التي حاولت تكرار الهروب الى الامام منها باغراق السوق المالي من خلال طباعة الاف المليارات من الدولارات الورقية باعتبار ذلك يمكن ان يتملص من الكساد الرابض على الابواب.
لقد كانت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، واضحة بهذا الخصوص، بحيث اعلنت أنّ الولايات المتحدة بحاجة إلى رفع سقف الديون لتجنب الكساد الاقتصادي، وقد خاطبت مستنجدة في رسالةٍ رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي: "تقديراتنا تقول إننا سنعجز عن الاستمرار في الوفاء بجميع التزامات الحكومة بحلول مطلع حزيران/ يونيو المقبل، إذا لم يرفع الكونغرس أو يُعلّق سقف الدين قبل ذلك التاريخ، كما أن استخدام الرئيس جو بايدن للتعديل الـ14 بالدستور الأمريكي لتفادي إعلان الإفلاس دون الرجوع إلى الكونغرس، سيثير أزمة دستورية". وشددت يلين على أنّ اميركا ستشهد عواقب في الأسواق المالية إذا لم يتخذ الكونغرس أي إجراء، مؤكدة "ستكون هذه هي المرة الأولى التي سنفشل فيها في السداد، وسنواجه أزمة دستورية". على أن أولوية الحكومة تبقى ضمان قيام الكونغرس "بعمله" من خلال رفع سقف الدين الوطني، مع الاقرار: "ببساطة لا توجد خيارات جيدة. والخيار المطروح هو من بين هذه الخيارات غير الجيدة".
ان كبار الخبراء الاقتصاديين باتوا فعلا امام مراجعة عميقة للوصفات الاميركية الاقتصادية والمالية. وطبعا لبنان كان من اكبر الضحايا لمثل تلك الوصفات القاتلة، خصوصا ان منظومة النهب المنظم لا تسعى إلى "تصحيح الوضع الحالي"، واصلا هي مفلسة على مستوى ايجاد بدائل عادلة مع يقينها أنّ التخلّف عن السداد سيقوّض الثقة في ما يسمى "أهم نظام مالي في العالم"، كما ستؤدي التخفيضات الشديدة في النفقات إلى ركود عميق.
ان مظهر المشكلة يكمن في أنّ "العناصر المتشددة في الحزب الديمقراطي، بما في ذلك جو بايدن، تريد تمرير فاتورة إنفاق بقيمة 6.8 تريليونات دولار، ستضيف المزيد إلى ديون أميركا الضخمة، بينما الحزب الجمهوري تسيطر عليه مجموعة من المتعصبين الذين يرفضون القيام بمفاوضات مع الديمقراطيين، إلا إذا تمّ تخفيض ميزانية الإنفاق الاجتماعي". وفي هذا الاطار اقر اقتصاديو البيت الأبيض ومحللون مستقلون بأن سياسة "حافة الهاوية" الحالية والتخلف عن السداد في المستقبل يمكن أن يكون لهما تأثير مدمر على الاقتصاد الأميركي، ما سيؤدي إلى انهيار سوق الأسهم والقضاء على ملايين الوظائف.
ليس مستغربا ان يكون للازمة التي تعصف في الولايات المتحدة ابعاد سياسية، مقرونة بالهروب من الواقع كما اعتادت السياسة الاميركية في عمقها، ولذلك اتّهم الرئيس الأميركي جو بايدن أعضاء الحزب الجمهوري باحتجاز الاقتصاد "رهينة" ، برفضهم تمرير زيادة حدّ الدين، ما لم يوافق هو أوّلاً على إجراء تخفيضات صارمة لميزانية البلاد، .وذلك بالتوازي مع الاعلان عن "كارثة" قادمة وفق تحذير البيت الأبيض من "أنّه في حال لم يتراجع الجمهوريون عن رفض رفع سقف الدين العام فإنّ الولايات المتّحدة ستشهد كارثة اقتصادية، إذا ما وقعت في حالة التخلّف عن السداد لفترة طويلة. وهذا يمكن ان يجري استثماره في الانتخابات الرئاسية التي يتعاظم الكباش بشأنها ودونها بعض الدماء التي يحجبها الاعلام الاميركي، كما يحجب الجرائم الاميركية، ولا سيما الاقتصادية بحق الشعوب والدول.
في الواقع يحاول رئيس مجلس النواب مكارثي، والمعروف بانه أضعف رئيس لمجلس النواب منذ قرن، البحث عن مخرج كتسوية تؤجل الكارثة المنتظرة، لكن الخبراء الاميركيين انفسهم يرون انه "يخدع نفسه إذا كان يعتقد أنه يمكنه العثور على مخرج لأميركا قبل فشل مجلس النواب في رفع سقف الديون هذا الصيف". لا سيما أنّ أعضاء الحزب الجمهوري في مجلس النواب، ليسوا متفقين سواء مع بعضهم البعض أو مع قادتهم. لكن للمشكلة اوجه اخرى يتمثل احدها في الذعر بين الناس، اذ يسارع المودعون في الولايات المتحدة الأميركية وخارجها في الدول الغربية الى سحب مدخراتهم، لا سيما مع انهيار عدد من البنوك، دون ان يكون هناك معالجات جدية في الاحتواء وبذلك يسرّعون عملية الانهيار، وسط حالة ذعر جراء تنامي فقدان هؤلاء ثقتهم بالنظام المصرفي، ومخاوف بشأن متانة القطاع المصرفي ككل، خصوصاً مع الارتفاع السريع في أسعار الفائدة والذي يؤدي إلى انخفاض قيمة السندات في محافظهم، بموازاة خرق الدين العام في الولايات المتحدة سقف 75% من الناتج المحلي الإجمالي ليحقق أعلى رقم في تاريخ الوقائع الاقتصادية لأكبر اقتصاد في العالم أي 14.3 تريليون دولار. ومعنى ذلك أن الخزانة الأميركية أصبحت أول خزانة حكومية مدينة في العالم مما جعلها في مرمى سهام جارحة من كل حدب وصوب، وخصوصا من متناولي الوصفات الاميركية على انها علاج فكانت الداء.
ليس امام الكونغرس الأميركي سوى طريقين لا ثالث لهما، وكلاهما مزروعان بالغام معدة للتفجر تلقائيا الأول: رفع سقف الاقتراض من جديد إلى ما بين 80% و85% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي الاقتراب من عتبة إفلاس الخزينة، و محاكاة المشهد اللبناني. والثاني: إقرار مجموعة ضرائب جديدة على المكلفين، تماما مثل لبنان، لتمويل الخزينة عن طريق الأدوات المحلية، وبالتالي إثارة الناخب الأميركي الذي يرى في التخفيف الجبائي والرعاية الصحية مكاسب لا تنازل عنها كيفما كانت الظروف. وفي كلتا الحالتين ستجد الإدارة الأميركية نفسها في مواجهة غريمين كبيرين، الأول: يتمثل في الدائنين الكبار أي الصين واليابان والسعودية وهي الدول الدائنة لأميركا بمبلغ يزيد قليلا عن ثلاثة آلاف مليار دولار، إلى جانب أسواق المال والسوق النقدية الخارجية التي ما زالت تعمل بآلية الإقراض بفوائد. والخصم الثاني: يتمثل في المواطن الأميركي وخاصة أصحاب المداخيل الكبيرة والشركات الصناعية التي حافظت على تماسك الاقتصاد الأميركي عندما أفلست البنوك غداة الإعلان عن أزمة الرهن العقاري صيف العام 2007.
يونس عودة