القمة الروسية - الصينية بأبعاد استراتيجية
جاءت القمة الروسية - الصينية في موسكو في ظل الاحتدام السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي بين روسيا من جهة وحلف شمال الاطلسي والغرب عموما بقيادة الولايات المتحدة الاميركية من جهة ثانية. القمة تلت مباشرة اعادة انتخاب الرئيس شي جين بينغ رئيسًا للصين وعزل القيادات الصينية ذات الأهواء الغربية الى حد ما، الأمر الذي أطاح بمراهنات الغرب على استمالة الصين في مواجهة روسيا وحلفائها أو أقله إبعاد الصين إلى منطقة الحياد لتكون "الثور الأسود" في مرحلة لاحقة وفق المخطط الأميركي، ولأهداف استراتيجية أهمها منع ولادة عالم جديد لا تتصرف فيه واشنطن كوحش في غابة.
خلصت اتفاقات القمة الى سلسلة اتفاقات وأولويات أبرزها توجيه رسالة واضحة الى الغرب أن العلاقات الصينية - الروسية تجاوزت كونها علاقات ثنائية، وهي ذات أهمية كبيرة للنظام العالمي الحديث ولمصير البشرية، وهي قائمة على شراكة شاملة وتعاون استراتيجي، تدخل عصرًا جديدًا، وفق البيان الختامي الذي أكد أن روسيا والصين تعارضان فرض دولة واحدة لقيمها على دول أخرى.
بلا شك أن القمة وضعت مداميك ثابثة بعد الفشل الغربي بقيادة واشنطن في عزل روسيا ومحاصرتها في العقوبات التي ارتدت على أصحابها في الغرب، بحيث إن القوة الأقوى بشريًا واقتصاديًا والمحميّة بقوة عسكرية متنامية - أي الصين - تؤكد خياراتها في المواجهة لا سيما أنها هي أيضًا تدرك أنها الهدف الثمين للامبريالية الأميركية فيما لو نجحت اميركا في تحقيق مآربها الخبيثة ضد روسيا والمحور المواجه لسياسات الولايات المتحدة الشريرة. وقد عبر البيان المشترك عن أبعاد مهمة في هذا السياق، بحيث أكد أن "العلاقات الروسية - الصينية ناضجة ومستقرة ومكتفية ذاتيًا وقوية، وقد صمدت أمام اختبار وباء كوفيد-19، والوضع الدولي المضطرب، ولا تخضع لتأثير خارجي، وتظهر حيوية وطاقة إيجابية".
من هنا يمكن التيقن أن علاقات من هذا النوع بين دولتين مقتدرتين يحتاجها العالم، وهما دولتان تنظران إلى سلسلة المشاكل العالمية برمتها -من التجارة والعلاقات الاقتصادية عمومًا إلى التشخيص المتطابق للمشكلات السياسية المتفاقمة في العالم بسبب همجية السياسة الاميركية - ولديهما الاصرار المشترك في سياق إنشاء نظام عالمي جديد، عادل على أنقاض النظام الذي كان موجودًا من قبل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولذلك فان ردود الفعل الغربية على انعقاد القمة ونتائجها، ليس غير ودي فقط، وانما معاد الى أقصى الحدود.
القمة عقدت مع اقتراب فصل الربيع الذي يتوقع أن يكون زاخمًا، بحيث إن الغرب بقيادة اميركا سيلعب الورقة العسكرية الاخيرة من البوابة الاوكرانية، اذ ان كل المؤشرات من زيادة منسوب التسليح للقوات الاوكرانية وضمنا الكتائب النازية وانخراط الناتو بشكل متنام في الصراع تدل على معركة ستكون فاصلة، ولذلك فإن القمة وبناء على المعطيات الميدانية لم تناقش مبادرة الصين السلمية المتزامنة مع رفض أميركي لوقف الحرب، وعلى لسان منسق الاتصالات الاستراتيجية بالبيت الأبيض جون كيربي الذي قال إنه "إذا أدت هذه القمة إلى أي دعوة لهدنة، فسيكون ذلك غير مقبول".
بلا شك ان صناع القرار في الولايات المتحدة ينظرون الى الصين التي توسع نفوذها العالمي وصولًا الى البحر الأحمر بروح المعاداة، وهي المصنفة العدو الرقم واحد في الاستراتيجية الأميركية، لكن خشيتهم تتزايد ليس فقط من القوة الاقتصادية للصين بل من القوة العسكرية المتنامية باطراد غير مسبوق بحيث أكد ممثلو القوات المسلحة الأمريكية تفوّق الصين في العديد من المجالات العسكرية، مع الاقرار أن الأسطول الصيني أصبح الأكبر في العالم. وقال قائد أسطول المحيط الهادئ للبحرية الأمريكية إن "البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني كانت تتألف في أوائل عام 2000، من حوالي 37 سفينة، والآن يجري الحديث عن 350 سفينة، وهي الأكبر في العالم من حيث عدد السفن".
لم تخف الصين يوما أن أهدافها الاستراتيجية من القوة العسكرية المتراكمة هي أولًا حماية طرق التجارة وبالأخص البحرية على مدار الكرة الأرضية، ولذلك حرص البيان الختامي للقمة على التأكيد أن روسيا والصين تؤيدان الحفاظ على القطب الشمالي كمنطقة سلام وتعاون رغم الأهداف الأميركية اتجاه المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية.
تحتاج نتائج القمة الروسية - الصينية الى مناقشات أوسع لبنود أخرى ولا سيما في أبعادها الثقافية التكاملية خصوصًا مع منطقة "الشرق الاوسط "، وهو ما بدأت العمل عليه روسيا وايران ومصر وسوريا ودول افريقية من جهة، والصين والسعودية ودول خليجية أخرى ودول مشاطئة للبحرين الأبيض المتوسط والأحمر من جهة أخرى، ولكن في اطار التكامل الموضوعي وكحاجة بشرية أيضًا.
وفي هذا السياق، من المتوقع تسريع الخطوات في هذا الاتجاه بعد الربيع بحيث ستحسم المعركة الفاصلة في اوكرانيا اتجاهات دول مترددة حتى الان، وخصوصًا في ظل التدهور الاجتماعي والاقتصادي في الغرب وضمنًا الولايات المتحدة حيث افلاس البنوك والمخاوف من نتيجة المعركة الفاصلة في أوكرانيا وانغماس الغرب أكثر فيها ما يمكن أن يؤدي الى صدام عسكري مباشر مع روسيا. وهذا الأمر لا يستبعده محللون أميركيون واقعيون يردّون الأسباب في اي صدام مباشر محتمل الى غباء الرئيس بايدن. وفي هذا الاطار قالت صحيفة "American Thinker" إن "قرار الرئيس الأمريكي بتزويد نظام كييف بالمساعدات العسكرية سيؤدي إلى مشاكل كبيرة، بسبب أخطاء بايدن في أوكرانيا، استنفد مخزون واشنطن من الأسلحة، مما قد يجعل الولايات المتحدة عرضة للخطر". وأشارت الصحيفة: "قرار الرئيس بايدن في التخفيض الجنوني لمخزوناتنا من الذخيرة والصواريخ والأسلحة الأخرى التي تم إرسالها مع مليارات الدولارات التي لا توصف إلى الديكتاتور في أوكرانيا سيؤدي إلى مشاكل كبيرة".
لا تقتصر الشكاوى من السياسة العدوانية الأميركية اتجاه روسيا ونتائجها المدمرة على معارضي بايدن الاميركيين، وانما تعدّت ذلك الى داخل البرلمان الاوروبي حيث عبّر عضو البرلمان الأوروبي مايك والاس، الذي قال: "لسوء الحظ، أوكرانيا مجرد بيدق في الحرب الإمبريالية بالوكالة التي تشنها الولايات المتحدة وحلف الناتو ضد روسيا، سعيا وراء مصالحهما الخاصة، غير آبهين بأرواح الروس والأوكرانيين الذين يموتون بلا سبب يذكر.. إن وجود حلف الناتو بحد ذاته، يعيق السلام والاستقرار في العالم، ولا يريد حل الأزمة، ولن يكون هناك سلام واستقرار ما دام الناتو قائما".
يونس عودة