الفقر يحاصر بريطانيا

مايو 10, 2023 - 08:28
الفقر يحاصر بريطانيا
الفقر يحاصر بريطانيا

ربما ينشر عنوان هذا المقال حالة من الاستغراب في الأجواء، إلا أن هذا الاستنتاج أتى بالفعل من بنك إنجلترا المركزي. أي من جهة لا يمكن التشكيك في استنتاجاتها، خصوصا عندما يرتبط الأمر بالاقتصاد المحلي. هذه الجهة التي تضع السياسات المالية بصورة مستقلة عن وزارة الخزانة، بعدما تحول البنك قبل ربع قرن من الزمن تقريبا إلى الاستقلالية عن القرارات الحكومية، "التحول صار في عهد حكومة توني بلير العمالية". منذ ذلك الحين، أصبحت هذه المؤسسة بعيدة عن تأثيرات القرارات الحكومية بصرف النظر عن هوية من يجلس في مقر "داونينج ستريت". والحق أن العلاقة بين الحكومة والبنك لم تشهد منذ ذلك الحين توترات كانت متوقعة، بل ظلت في السياق الانسيابي، حتى عندما تتصادم رؤى الطرفين في معالجة مسألة ما، أو في التعاطي مع قضية ملحة طارئة.

هيو بيل، كبير الاقتصاديين في بنك إنجلترا، قالها بوضوح، "على الناس في المملكة المتحدة القبول بفكرة أنهم صاروا أفقر"، ما يعني أن القدرات الشرائية للأسرة البريطانية تراجعت بمستويات تعد قياسية، وأن المشكلات الراهنة التي يواجهها الاقتصاد عموما ستواصل الحضور على الساحة لفترة لن تكون قصيرة، وأن وضعية هذا الأخير تبقى الأسوأ بين اقتصادات مجموعة السبع، وهي "تفوقت" فقط على اقتصاد روسيا ضمن "مجموعة العشرين" من حيث الاضطراب والتردي. يأتي هذا الاستنتاج الصادم حقا، في ظل سلسلة -يبدو أنها لن تنتهي قريبا- من الاضطرابات في كل القطاعات تقريبا، والتي أضافت مزيدا من الخسائر إلى الاقتصاد المحلي. صار من الغريب أن يمر أسبوع في بريطانيا دون حدوث إضراب في هذا القطاع أو ذاك، حتى إنه شمل قطاعات الطوارئ والأمن والصحة والإطفاء!

ولمزيد من الضغوط على الاقتصاد البريطاني، بلغت الديون الحكومية مستويات تاريخية حقا، عند 2.5 تريليون جنيه استرليني. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الحكومة مدينة لكل منزل في البلاد بـ90 ألف استرليني، في حين سجل الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي 2.2 تريليون استرليني. وعلى الرغم من نجاح جيرمي هانت وزير الخزانة في خفض مستويات الاقتراض الحكومي، عبر سياسات عكست موازنة حكومة ليز تراس السابقة، إلا أن المؤشرات تدل جميعها على أن مستويات الدين ستواصل الارتفاع، وإن بحدود أقل مما كانت عليه. وسط هذه الأجواء، يؤكد كبير الاقتصاديين في البنك المركزي، "نحن جميعا في وضع أسوأ مما كنا عليه". لا شك في أن هذا الكلام أتى في وقت حرج على الصعيد السياسي. فالبلاد تستعد بعد أيام للانتخابات المحلية، أما الانتخابات العامة التي تحدد من سيحكم البلاد فستجري في أقل من عامين.

من المشكلات التي أسهمت في حقيقة الوضع الاقتصادي في هذا البلد، أن المملكة المتحدة باتت تستورد أكثر مما تصدر. علما بأن صادراتها في معظمها خدمات. وبعيدا عن الجدل الذي لا ينتهي بين الأطراف المحلية المعنية حول من يتحمل مسؤولية ما يحدث اقتصاديا، خصوصا في ظل أجواء الانتخابات، فالحقيقة أن عوامل كثيرة أدت إلى ما هو عليه الوضع في البلاد. على رأسها بالطبع، ارتفاع التضخم الذي يعد الأعلى بين اقتصادات المتقدمة، فهو يتجاوز الآن 10 في المائة، في حين بلغ التضخم في أسعار المواد الغذائية 17.3 في المائة، بينما ليس أمام "البنك المركزي" سوى اللجوء إلى الفائدة ورفعها للسيطرة ما أمكن على زيادة أسعار المستهلكين. أما الفائدة المرتفعة فهي "كما هو معروف" كابح يقيد النمو. فزمن التيسير النقدي انتهى، وربما لن يعود قبل نهاية العقد الحالي.

وسيبقى الأمر كذلك، طالما أن كل طرف يحاول تحميل الطرف الآخر فارق الأسعار! ما سيجعل مستويات التضخم مرتفعة لفترة أطول، بحسب المشرعين البريطانيين أنفسهم. بالطبع العوامل كثيرة لوصول الوضع الاقتصادي في المملكة المتحدة إلى هذا المستوى، منها أعباء الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها السلبية على أسعار الطاقة طوال أكثر من عام، فضلا عن الآثار التي لم تنته بعد لتداعيات جائحة كورونا. فالضغوط التي جلبتها هذه الجائحة ستبقى موجودة لفترة طويلة. فمن أسباب ارتفاع التضخم، كانت موجات الدعم المالي الحكومية خلال كورونا. وكما هي العادة، لا يحب السياسيون في البلاد أن يتحدثوا عن آثار انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" في الاقتصاد الوطني. فهذا الموضوع يظل حساسا.

مع الخروج رسميا قبل عامين، تراجعت قيمة الجنيه الاسترليني بشدة، ما رفع بالتالي تكلفة الواردات. حتى إن مارك كارني حاكم بنك إنجلترا المركزي السابق، أعلن بعد خروجه من منصبه "بالطبع"، أن "بريكست" يسهم في الأزمة الاقتصادية الراهنة عموما. إنها مجموعة من العوامل التي أدت إلى أن تصبح بريطانيا أكثر فقرا. ويبدو واضحا أن هذه المسألة ستكون في مقدمة اهتمامات الناخبين البريطانيين، حيث باتت نسبة متصاعدة منهم تعتقد بأن التغيير السياسي بات ضروريا الآن، للحفاظ على ما تبقى من المكتسبات على الأقل. فحتى التحول الإيجابي يحتاج إلى فترة لن تكون قصيرة على الإطلاق.

المصدر: الاقتصادية