العولمة المتفككة والنظام العالمي الجديد
على امتداد ثلاثة عقود كان العالم يعمل بافتراض أن العولمة الاقتصادية والمالية ستستمر وتتقدم، وقد عمل الترابط المتبادل بين الإنتاج والاستهلاك وتدفقات الاستثمار على تمكين الشركات من توسيع أسواقها، لكن في السنوات الأخيرة لوحظ انحسار العولمة، وفك الارتباط بين التجارة والاستثمار، وكانت النتيجة ردة فعل عنيفة ضد العولمة، كانت أبرز تجلياتها في خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ومجيء دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في 2016.
وبدأت الولايات المتحدة في حرب الرسوم الجمركية مع الصين، الأمر الذي أدى إلى تعميق الانقسام بين القوتين الاقتصاديتين، وأفضت الحرب الأوكرانية إلى فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا.
يرى الكثير من المحللين أن العولمة الـمُـفـرطة بدأت تتفكك وتتآكل في حقبة ما بعد تسعينيات القرن الماضي، لقد تسببت جائحة كورونا 2019 والحرب الأوكرانية، في الدفع بالأسواق العالمية إلى مرتبة دنيا ثانوية، خلف الأهداف الوطنية- وخاصة الصحة العامة والأمن الوطني.
ومن المُرجح أننا ندخل حقبة من العولمة المتفككة، الحقيقة أن العولمة المفرطة كانت في تراجع منذ الأزمة المالية العالمية 2007، حيث بدأت حصة التجارة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تتضاءل، واكتسب الساسة الشعبويون الذين يعادون العولمة، نفوذاً متزايداً في الاقتصادات المتقدمة، وبدأت العولمة تتآكل وتنهار تحت وطأة تناقضاتها العديدة.
كان مبدأ الميزة النسبية ينص على أن الدول يجب أن تتخصص فيما تجيد إنتاجه، وكانت النتيجة الصراع بين السياسات التدخلية التي تنتهجها الاقتصادات الأكثر نجاحاً، كالصين، مع صعود الصين كمنافس جيوسياسي للولايات المتحدة، والحرب الأوكرانية، أعادت المنافسة الإستراتيجية تأكيد ذاتها على الاقتصاد.
ومع انهيار العولمة المفرطة لوحظ أن الحسابات الجيوسياسية أدت إلى اندلاع الحروب التجارية وتحولت العقوبات الاقتصادية إلى سـمة دائمة للتجارة والتمويل الدوليين.
وظهر لاحقاً نموذج لسياسة اقتصادية ناشئة، سُميت «النزعة الإنتاجية»، لتعيد تأكيد الأولويات السياسية المحلية دون أن تكون معادية للاقتصاد العالمي المفتوح.
هناك نموذج ناشئ آخر يسمى «الواقعية المفرطة»، على طريقة المدرسة «الواقعية» للعلاقات الدولية.
يؤكد هذا النموذج الخصومة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، ويعد هذا النموذج الاتكالية الاقتصادية المتبادلة سلاحاً يمكن استخدامه لتعجيز الخصوم، كما فعلت الولايات المتحدة عندما استخدمت ضوابط التصدير لمنع الشركات الصينية من الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة.
سيعتمد مسار الاقتصاد العالمي في المستقبل على كيفية عمل هذين النموذجين المستقلين، فستتبنى الحكومات نهجاً أكثر ميلاً إلى الحماية.
من المرجح أيضاً أن تتبنى الحكومات سياسات خضراء تحابي المنتجات المحلية، مثل قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة، أو تقيم الحواجز على الحدود، كما يفعل الاتحاد الأوروبي، ومثل هذه السياسات تخدم الأجندات الداخلية وقد نتذكر يوماً ما، مشهد استنطاق الكونغرس الأميركي لرئيس شركة «تيك توك» شو زي تشيو، في الـ23 من آذار 2023، كنقطة تحول في تاريخ العولمة.
وعلى مدار خمس ساعات من الاستنطاق العدواني، دافع تشو بقوة عن ملكية شركته الصينية في مواجهة فهم الكونغرس المحدود لعالم التكنولوجيا.
تنظر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى «تيك توك» باعتباره تهديداً محتملاً للأمن القومي وتريد أن يتم شراؤها لمصلحة شركة أميركية أو مواجهة حظر محتمل، بينما تعارض الحكومة الصينية البيع.
المحللون يرون أن الحظر المقترح من الولايات المتحدة يمكن أن يعجل بالتحول نحو إزالة العولمة، بالمقابل الرئيس الصيني شي جين بينغ مُقتنع أن «المعجزة الاقتصادية» الصينية كانت بفضل العولمة، لذلك يدعو إلى الانفتاح والشمولية.
أما الولايات المتحدة، فإن إدارة الرئيس جو بايدن لا تتراجع عن القيود التجارية بشكل كامل، وخاصة السلع التكنولوجية ذات الصلة بالأمن الوطني.
لم تتمكن العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا من تقليل صادرات روسيا من النفط، بل أعادت توجيهها إلى الصين والهند، وبدلاً من تركيع الاقتصاد الروسي، كما زعم كثيرون، تمكنت القيادة الروسية من إعادة توجيه الأنشطة المحلية والخارجية، وحتماً سيؤثر ذلك الخليط من الصدمات الجيوسياسية، والقيم الاجتماعية المتغيرة، في أنماط التجارة والاستثمار، وسيأتي هذا في وقت تكتسب المخاوف الأمنية قدراً أعظم من الثقل في الاعتبارات التجارية.
من المرجح أن تصبح العولمة أكثر ميلاً إلى التضخم، ما يقلل من النمو المحتمل، ويتوقف تجنب هذه النتيجة على كيفية تعامل الحكومات الوطنية والمؤسسات المتعددة الأطراف مع الواقع الاقتصادي الجديد.
قد لا تنحسر العولمة المتفككة بشكل كامل، ومن المرجح أن تسعى الحكومات لمراعاة الأولويات الوطنية أولاً، دون أن تكون معادية للاقتصاد العالمي المفتوح وفي إطار نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
المصدر: الوطن