الصين من المنافسة إلى المواجهة
المشهد الدولي يشير إلى مخاطر جيوسياسية وتداعيات لأزمات سابقة، فضلاً عن التوترات التي تنشرها الخلافات والمواجهات السياسية؛ فهناك الحرب الأوكرانية، ثم الرفع المتواصل للفائدة في مواجهة التضخم، وتبعات جائحة كورونا، إضافة للاضطرابات في القطاع المصرفي الأميركي والسويسري، والمواجهة الصينية الأميركية.
كتب مارتن وولف في «الفاينانشال تايمز» في أيار 2023: «من المرجح أن تحدد العلاقة بين الولايات المتحدة والصين مصير البشرية في القرن الـ21».
لا يختلف اثنان في أن الصين فرضت حضورَها بوصفها «أولوية» في معظمِ الأجندات السياسية الدولية، سواءً بالنسبة لكل دولة مَعنيَّة، أو للتحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية الكبرى. بالمقابل تختلف الأولوياتُ الأمنية والسياسية لـ«حزبي السلطة» في الولايات المتحدة، كما حدثَ في الانتخابات الرئاسية، كما نذكر، فشدَّد الرئيسُ السابق دونالد ترمب على «الخطر الصيني» معتبراً الصينَ «المنافس» بل «العدو» المستقبلي للولايات المتحدة، في حين اعتبرَ الديمقراطيون أن «روسيا – فلاديمير بوتين» لا تزال المنافس الأخطر.
بالغت إدارة بايدن في محاولات التحشيد الدولي ضد بكين، وفشلت في تأطير التنافس معها، والتوقعات المتفائلة تعود أساساً إلى إمكانية أن يحقق الاقتصاد الصيني هذا العام مستويات نمو معقولة عند حدود 5٫1 في المئة.
ستظل الصين المحرك الأول للنمو العالمي، مقابل مستويات نمو متواضعة في الاقتصادات المتقدمة. فتوقعات النمو على الساحة الأميركية لا تزيد على1,4 في المئة حتى الآن، وهناك مؤشرات تدل على إمكانية أن يدخل الاقتصاد الأميركي دائرة الركود قبل نهاية العام الجاري.
في هذه الأثناء، نرى أن شروطَ اللعبة تتغيّر، من المنافسة إلى المواجهة، ومعها تتغيّر التكنولوجيا المستقبلية المتطورة، التي دفعت واشنطن للتركيز على الأبحاث العلمية وتقنيات الرقمنة والمعلوماتية والذكاء الصناعي.
وبالتوازي، نجد أن الصين، تدخل هي الأخرى حلبة تقنيات المستقبل بخطوات كبيرة وطموح أكبر، ويكفي تذكر كيف أدى الإغلاق الذي فرضته الصين مطلع 2020 بعد انتشار «كوفيد – 19»، إلى تعطّل العمل في مرافق صناعية كبرى حتى في الدول المنافسة للصين، كاليابان؛ إذ توقف إنتاج السيارات لبعض الوقت، بسبب نقص الشرائح وشبه الموصلات والبرمجيات المستوردة من الصين، وبعد التجربة الأوكرانية بدا واضحاً أن الشق الاقتصادي من التحدّي الصيني ليس إلا جزءاً من تحدٍّ أوسع وأشمل، لكونه يتكامل مع التوجهات السياسية لبكين.
من جانب آخر؛ منذ رعاية الصين للمصالحة السعودية الإيرانية لم تتوقف التعليقات في الإعلام الغربي عن الإنجاز الذي حققته بكين في منطقة ظلت مجالاً للهيمنة الأميركية والحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
لا يمكن فهم الدور الصيني «الجديد» بعيداً عن التنافس الصيني الأميركي، فهو جزء من محاولة الصين إضعاف القوة الأميركية وإعادة تشكيل النظام العالمي.
وفي الصين التي بدأ فيها الرئيس شي جين بينغ ولايته الثالثة، هناك محاولة واعية للتصدي إلى الضغوط الأميركية وما يراه «احتواء» يذكر بالحرب الباردة.
واندفعت الصين بسبب نجاحاتها لإعادة ترسيم الخريطة الجيوسياسية العالمية، وتعمل بكين منذ وقت طويل على الدفع بطموحاتها العالمية من خلال مبادرة الحزام والطريق التي تقوم على بناء بنى تحتية تربط دول العالم ببعضها بعضاً.
يهمُّ بكين إقناع أوروبا بعدم الانضمام إلى سياسة الاحتواء الأميركية المنتهجة ضدها، من خلال توطيد المصالح الاقتصادية معها، والحرص على أن يكون العالم خارج نطاق سيطرة قطب واحد، في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية.
القادة الصينيون يؤمنون بأن الولايات المتحدة تهدف بالفعل إلى إحباط صعودهم الاقتصادي، وقد تكون الإجراءات الأميركية حول صادرات الرقائق بحجة تعزيز الأمن الأميركي، لكنها تشكل أيضاً قيداً على الاقتصاد الصيني.
الصين دولة لها قِيَمها، خلافا لتاريخ أميركا، والصين لم تدخل حرباً منذ عام 1979 وظلت تكرر التزامها بالسيادة الوطنية وعدم التدخل في شؤون الآخرين.
الصين تعرف اليوم أنها مستهدَفة، وبشدة، من الولايات المتحدة الأميركية في صراع الأقطاب، لكنها مع ذلك تدير معركتها بثقة وقوة وهدوء، وركزت وتركز على بناء أقوى الاقتصادات في العالم من دون إهمال الاهتمام بالقوة العسكرية الضاربة التي باتت تملكها استعداداً لمواجهة الوعيد والتهديد والتحرش من الولايات المتحدة، حتى وصل الأمر إلى التلويح بحرب عالمية ثالثة.
مجرد محاولة لمعاندة التاريخ والتطور الطبيعي ولوقائع الأمور على الأرض، والعالم كله اليوم يعرف أن الصين قادمة إلى الصدارة لا محالة وهي مستعدة للانتقال من المنافسة إلى المواجهة.
المصدر: الوطن