السياسات الأميركية تواجه مصيرها المحتوم
يتضح أن العالم بأكمله يشهد حالة من الاضطراب الشامل، ويتميز هذا الوضع بتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في كثير من البلدان. وتتسم بعض المناطق بمستوى عالٍ من الاضطرابات العسكرية، حيث يشهد الصراع الأطلسي - الروسي والصراع في فلسطين مع الارهاب الاسرائيلي مظاهر واضحة للغليان العسكري. بينما هناك ملفات ساخنة على طريق التبريد والمعالجة، لا سيما في منطقة التوتر الدائم أي الشرق الأوسط.
الساحات التي يتم تبريدها تشكل القلق الأفدح للولايات المتحدة الأميركية مع انكشاف مآربها الخطيرة ولا سيما أمام ساحات ودول كانت تعتبرها كالخاتم في اصبعها. بدأت الولايات المتحدة تخرج عن طورها بعد سلسلة من فشل استراتيجيتها المعتمدة في اخضاع الدول، عبر الترويع السياسي والاقتصادي والأمني، أكان المباشر أو عبر انشاء ودعم تشكيلات ارهابية.
ان المشهد الحالي في المنطقة يتحول بسرعة خلافًا للمخططات والتوجهات الأميركية، ولعل الاتفاق الايراني السعودي برعاية الصين وبعلم روسيا، اعتبرته واشنطن من أشد الصفعات، فقد عملت على رفع جدار بين البلدين لأكثر من أربعين عامًا، وها هو الاتفاق يسير بخطى ثابتة في سبيل استقرار المنطقة، مع اليقين لمن يريد الاستقرار، ولمن يعمل على ضربه، بأن نجاح الاتفاق يعني خسارة مدوية للولايات المتحدة ومجموعتها، وفي المقدمة الكيان الصهيوني المؤقت على أرض فلسطين، وهو الكيان الآخذ في التداعي من فوق ومن البنية التحتية على حد سواء.
تمديد الهدنة في اليمن وعملية تبادل الأسرى، والاتجاه الواضح لرفع الحصار عن الموانئ والمطارات اليمنية كخطوات جادة لانهاء العدوان تمهيدًا لاعادة الاعمار والبناء شكلت بدورها صفعة مؤلمة لكل من أراد استنزاف الأطراف وقدراتها على كل المستويات كي يبيع منتجات الموت من المصانع الغربية، وبالاخص الولايات المتحدة الاميركية، اضافة لكل من يريد بث التفرقة والشقاق ليسود في المنطقة ويسيطر على مقدراتها وطرقها البحرية الحساسة عالميًا.
كما أن المسار الذي بدأت تأخذه الأزمة السورية بعد الصمود الأسطوري، والمباحثات التي جرت وستجري في العاصمة الروسية قريبًا على مستوى وزراء خارجية روسيا - ايران - تركيا - سوريا، سيؤسس لمسار قوي في اقتلاع أي تشكيلات دخيلة على أرض سوريا، سواء كانت قوات نظامية وفي مقدمها التحالف الدولي النصف اطلسي أو تشكيلات مستجلبة من الارهابيين، وكل من دخل الاراضي السورية من دون موافقة الدولة السورية والتنسيق معها، وسوف تتفرغ سوريا في موازاة ذلك للجبهة الجنوبية مع الكيان المحتل. اضافة الى ذلك، تبذل الجهود لتكون سوريا نجم القمة العربية المقبلة في السعودية ما سيشكل ليس صدمة للولايات المتحدة وصفعة للكيان المحتل فقط، بل زلزالًا بالمعنى السياسي لفشل 12 عشر عامًا من دعم الارهاب المباشر والمشاركة في العمليات العسكرية مباشرة ضد سوريا مع العمل على تدمير الشواهد التاريخية على الثقافة المواجهة للغزاة اينما كانوا واتوا، والعمل على تمزيق سوريا وشعبها.
إن المسار السعودي - التركي التصالحي ايضًا يمكن أن يؤسس لمشهد تعاوني ينعكس على المشهد العام خلافًا للمشهد الأسود الذي ورطت الولايات المتحدة البلدين فيه خصوصًا في سوريا، وقد بدأت محادثات جدية في هذا السياق مرفودة بضخ الأموال في الاقتصاد، حيث أعلنت السعودية عن ضخ 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي، إضافة إلى ذلك، تعهدت السعودية، إلى جانب قطر والإمارات العربية المتحدة بالمشاركة في مزادات السندات الحكومية التركية، كما تقدم هذه الدول مساعدات لكل من مصر وباكستان. أي بمعنى آخر الاستثمار في دول المنطقة، وفي هذا السياق فإن للاتفاق الايراني السعودي مكانة في تبادلات الاستثمارات بين البلدين بحيث ستكون هناك مفاجآت سارة ليس فقط بأحجامها المالية، وانما أيضًا بنوعيتها.
كانت دول الخليج تستثمر جزءًا كبيرًا من أرباحها في الديون والأصول الأمريكية الأخرى، وقد تحولت إلى شبه رهائن مخطوفة مقابل الضمانات الأمنية، لكن بعد التوجه نحو دول البريكس ومنظمة شنغهاي، وعودة العلاقات بين السعودية وإيران، فقد تلاشت الحاجة إلى مظلة عسكرية أمريكية. حتى أن القواعد الأمريكية في الخليج تحولت من ضامن للأمن إلى عنصر لزعزعة الاستقرار، وهي مسألة وقت فقط قبل أن يتم طردها من المنطقة، لكن الاستثمار الضخم لدول الخليج في الأصول الأمريكية يحتجز العرب كرهائن، ويمكن أن يبطئ هذه العملية.
بلا شك إن الولايات المتحدة تدرس مصير نفوذها في المنطقة وفي كل مكان من العالم، ولذلك، فإنها سوف تستخدم كل الأساليب وفي مقدمتها الأساليب القذرة من ضغط مالي وصولًا إلى التهديد الأمني والعسكري، لا سيما وأن التوقعات تجزم بأن بداية أزمة الديون في العالم وفي الولايات المتحدة الأمريكية ستهب رياحها العاصفة الصيف المقبل، أو في الخريف على أقصى تقدير. وهذه المرة ستفقد واشنطن ورقة مهمة، اذ إن الغرب كان كلما وقع في أزمة اقتصادية يعمل على حلها بواسطة أموال أو استثمارات خليجية، وهو ما حصل أزمة عام 2008.
بالمقابل أطلقت الادارة الأميركية حملة تحريض جديدة لاعادة انتاج الفتن من خلال التحريض على الاتفاق الايراني - السعودي، وعلى المسار الذي تأخذه الازمة السورية، والأزمة اليمنية. وهناك زيارات سرية يقوم بها ممثلون لأجهزة الاستخبارات الأميركية للعديد من الدول تحت عنوان "أهمية استمرار التنسيق الأمني"، وفي هذا السياق كانت جولة مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز الى المغرب حيث عقد اجتماعا مع المدير العام للأمن الوطني المغربي عبد اللطيف حموشي. ووفق بيان صادر عن المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني - المغرب- فإن "المباحثات الثنائية بين حموشي وبيرنز تمحورت حول تقييم الوضع الأمني والمخاطر المرتبطة به على المستويين الإقليمي والجهوي، ودراسة التهديدات والتحديات الأمنية الناجمة عن توتر الأوضاع في بعض مناطق العالم، فضلا عن رصد واستشراف مخاطر التنظيمات الإرهابية، خاصة بمنطقة الساحل والصحراء".
يأتي ذلك في ذروة ما تشهده المنطقة وبموازاة تسرب الوثائق الأميركية الفاضحة خصوصًا في رؤية واشنطن لحلفائها، وقد عبر عن ذلك مسؤولان أمريكيان بأن أجهزة الأمن القومي الأمريكية تسعى جاهدة للتعامل مع تداعيات تسريب عشرات الوثائق السرية، بما في ذلك تأثير هذه التسريبات على تبادل المعلومات الحساسة بين مؤسسات الحكومة وعلى العلاقات مع الدول الأخرى. علمًا أنها تكشف بالتفصيل عن نقاط ضعف الجيش الأوكراني وعن معلومات عن حلفاء للولايات المتحدة من بينهم "إسرائيل" وكوريا الجنوبية وتركيا.
في الخلاصة يمكن الاستنارة بما قاله الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله أنّ "هناك تطوّرات كبرى حصلت خلال العام الماضي، على المستوى الدّولي، كما على مستوى المنطقة ومستوى الكيان والشّعب الفلسطيني. وعندما نقف أمامها، سيتّضح لنا الموقع الّذي باتت فيه هذه القضيّة والمحور"، مفسّرًا أنّ هناك "على المستوى الدّولي: تراجع القوّة الأميركيّة. لا نقول إنّ أميركا أصحبت ضعيفة أو هزيلة، فهذا غير واقعي، لكنّها لم تعد قويّة كما كانت في الأعوام والعقود الماضية".
وأوضح أنّ "التّطوّر الكبير على مستوى المنطقة، هو خروج محور المقاومة بدوله وشعوبه من الوضع السّابق. خلال 10 إلى 12 سنة، كانت هناك حرب كونيّة على محور المقاومة. حرب تديرها أميركا، وتستخدم فيها دولًا ومنظّمات إرهابيّة وجماعات مجرمة بعناوين مختلفة: حرب، حصار، عقوبات... اليوم هذا المحور خرج من الوضع السّابق بدرجة عالية قويًّا وحاضرًا وفاعلًا، وهذا ما نشهده في مختلف الساحات وهذا مؤثّر في قضيّة الصّراع مع العدو".
يونس عودة