أوروبا بين الاستقلالية والتبعية
يواجه الاتحاد الأوروبي منذ سنوات تحديات في العلاقة مع الحليف الأميركي، فهذه العلاقة شهدت مطبات كثيرة في السنوات العشر الأخيرة، مع صعود نجم الصين.
وأدت الحرب الأوكرانية منذ شباط 2022، إلى تراجع لهجة التوتر بين الحليفين الغربيين والتي بلغت ذروتها في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ثم جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد زيارته إلى الصين، لتطرح أسئلة حول استقلالية أوروبا أو استمرار تبعيتها لأميركا؟
وعلى متن الطائرة التي أقلته عائداً إلى باريس، قال ماكرون إلى صحفيي «بوليتيكو»: «إن الخطر الأكبر الذي تواجهه أوروبا هو أن تقاد إلى أزمات لا تخصها، ما يمنعها من بناء استقلالها الذاتي الإستراتيجي وأن تقلل أوروبا اعتمادها على الدولار الأميركي خارج الحدود الإقليمية»، وأضاف «على أوروبا ألا تتبع أميركا كالأعمى».
وسبق لماكرون أن قال: حلف الناتو ميت دماغيا، وإن على أوروبا أن تعتمد على نفسها بعيداً عن أميركا التي لديها مصالحها التي قد تتضارب مع المصالح الأوروبية.
قال ماكرون خلال زيارته لهولندا: أن تكون حليفاً لا يعني أن تكون تابعاً، الأوروبيون يرون نذر حرب قادمة بين الصين وأميركا، وسيجرون غصباً لصراع لا «ناقة لهم فيها ولا جمل».
العديد من المراقبين يرون أن تصريحات ماكرون تتسم بطابع التباهي والاستهلاك وفيها الكثير من النرجسية، وضعف في تقدير الواقع السياسي.
يذكرنا قصر نظر ماكرون ونرجسيته، بمقولة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بأن «صانعي السياسة الفرنسية لا يرون الواقع بل يتخيلونه».
تصريحات ماكرون أظهرت انقسام أوروبا، وجاء تصريح وزيرة الخارجية الألمانية معبراً عن الانقسام الأوروبي بقولها: إن «أوروبا لا يمكنها أن تكون على الحياد في النزاع بين الصين وتايوان»؛ بالمقابل سنلقي بعض الضوء على الموقف الأميركي الذي يتصف بالهيمنة وفرض التبعية: فحين تولى ترامب رئاسة أميركا فرض الرسوم الجمركية على دول الاتحاد الأوروبي تماماً كما فرضها على الصين، والرئيس الحالي جو بايدن حاول جذب الشركات والمصانع من جميع الدول الأوروبية باستخدام قانون خفض التضخم، ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تُظهر أن مصلحة الاتحاد الأوروبي تكمن بالابتعاد أو بما يسمى بـالانفصال الاقتصادي عن الصين.
معظم الأوروبيين لا يتوافقون مع الولايات المتحدة بهذا الانفصال، واتضح ذلك من زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الصين في تشرين الثاني 2022، وكان صرح قبلها باعتراضه على الانفصال الاقتصادي عن الصين، وحاول توسيع التعاون الاقتصادي بين ألمانيا والصين.
ولم يبتعد الرئيس الفرنسي ماكرون كثيراً عن توجه نظيره الألماني، ففي زيارته الأخيرة للصين دعا الأوروبيين إلى «الاستيقاظ» وعدم التبعية خلف الولايات المتحدة في سياستها تجاه الصين.
عملياً أوروبا بدأت تشعر بحجم الخسائر التي خلفتها الحرب الأوكرانية على اقتصادها وسياساتها، وأن الولايات المتحدة باتت غير قادرة على فرض شروطها حتى على حلفائها ما يؤكد بداية ظهور نظام عالمي جديد.
الكثير من الأوروبيين يعبرون عن خيبة أمل، وعدم القدرة على مسايرة التوجه الأميركي الذي يريد أن يحارب في أوكرانيا حتى آخر جندي أوكراني، فيما تستمر أوروبا بدفع الثمن على المستوى الاقتصادي والمالي، وليس سراً القول إن الأوروبيين قد تلقوا لطمات من العم سام، وخاصة شركات نفطه التي باعت لهم الغاز بأربعة أضعاف ثمنه، حين أُغلقت أنابيب الغاز الروسية المتجهة إليهم.
من جهة أخرى إن النزعة الديغولية القديمة يُعَبر عنها مجدداً، فالواقع أعاد للأذهان مشاهد فرنسا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أي في زمن الرئيس شارل ديغول صاحب المواقف ذات الطبيعة الاستقلالية عن الناتو، وعرف برغبته في صيانة استقلالية أوروبا عن التبعية الأميركية.
عام 1959 أعلن الجنرال ديغول أن بلاده لن تفتح أراضيها لتخزين الأسلحة النووية الأميركية، وعام 1966 أبدت فرنسا رغبتها في مغادرة حلف شمال الأطلسي، ويمكن اعتبار ما جرى يومها بداية الرغبة الفرنسية في الاستقلالية عن الناتو أو بمعنى أوضح عن الولايات المتحدة.
رغم الضجيج الإعلامي لتصريحات الرئيس الفرنسي فإن المراقبين لا يعتقدون أن إيمانويل ماكرون ورث أياً من الجينات الديغولية الرافضة للانصياع التام للأميركيين، ومع الأوضاع الاقتصادية الصعبة في أميركا، يعتبر كثير من منظري العالم الاقتصاديين بأن الصين هي الجواد الرابح اقتصادياً، وتشعر أوروبا أن نظاماً عالمياً جديداً بدأ يتشكل بعيداً عن الهيمنة الغربية، وبالتالي تتطلع بحياء إلى الاستقلالية، وربما تكون هذه محاولة أوروبية عبر البوابة الباريسية للقفز من سفينة التحالف الغربي التي تعصف بها رياح الاختلاف، وتقودها الولايات المتحدة وفقاً لأجندتها ومصالحها، ويبقى السؤال متى يبدأ فعلاً فك الارتباط والتبعية بين أوروبا والولايات المتحدة؟
المصدر: الوطن