تصاعد احتمال حرب إقليمية…
تحوّل مؤتمر ميونيخ للأمن إلى منبر تحريضي لتصعيد الحرب ضدّ روسيا في أوكرانيا. فمن يستمع إلى خطاب نائبة رئيس الولايات المتحدة كامالا هاريس في المؤتمر، يلمس استمرار التصميم الأميركي على الحرب في أوكرانيا، حتى الإطاحة ببوتين وروسيا كلها، وفي آن واحد. فقد أعادت هاريس نغمة التهديد باعتبار بوتين مجرم حرب، أو مسؤولاً عن إبادة بشرية، الأمر الذي يعني إغلاق الباب في وجه السياسة والتفاوض، وتسعير الحرب حتى إنزال الهزيمة التامة بروسيا.
واتجهت الخُطب الأوروبية نحو المطالبة بالمزيد من تسليح أوكرانيا، وتشجيعها على الحرب حتى النصر. ولا يمثل الرئيس الفرنسي ماكرون تمايزاً حين يؤكد على المزيد من تسليح أوكرانيا، مع تلميح للبحث عن وساطة تفاوضية، لأنّ السياسة تُقرأ انطلاقاً مما تمارَس، وليس مما تقول.
وبهذا يمكن القول بحكم قاطع إنّ مؤتمر ميونيخ للأمن، قد تحوّل إلى مؤتمر للحرب، ويصبّ الزيت على الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي يعني أنّ الخطر الذي يتهدّد العالم نتيجة الحرب في أوكرانيا ما زال قائماً على أوجه.
أميركا وأوروبا وحلفاء أميركا الدوليون يريدون من الحرب أن تُحسَم بالنصر ضدّ روسيا، وهو احتمال في طريقه لانتقال روسيا إلى استخدام النووي، إذا لم تستطع كسب المواجهة الميدانية من خلال الأسلحة التقليدية، دون النووية، لأنّ بوتين وهيئة الأركان الروسية، وأغلبية الشعب الروسي بالطبع، لا يمكن أن يقبلوا بالهزيمة العسكرية من خلال الأسلحة التقليدية، وحرب ممتدّة دون أن يلجأوا إلى السلاح النووي المحدود، وهم يملكونه، ويملكون السلاح النووي الشامل الذي يجعل الحرب العالمية حالة إفناء عام ليس فيها من منتصر.
والسؤال هنا إذا كان هذا هو قانون المواجهة الراهنة، فكيف يفكر قادة الغرب، وفي مقدّمتهم الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن، وهم يصعّدون الحرب في أوكرانيا إلى مداها الأقصى، فيما هم في الآن نفسه لا يذهبون، ولا يحتملون حرباً نووية شاملة؟ ولهذا فإنّ الإجابة عن السؤال: هو الرهان على استسلام بوتين وروسيا من خلال الحرب التقليدية. ولكن ما العمل إذا لم يحدث هذا الاستسلام، وأصبحت الحرب في عامها الثاني وَبالاً عليهم، أو تدخل النووي «الصغير» من جانب روسيا؟
الجواب: سيُضطرون إلى التراجع (الهزيمة عملياً) من خلال تدخل وسطاء أو مفاوضات، أو بغضّ النظر عن الشكل الذي يتمّ فيه التراجع.
وبالمناسبة، إذا وصلت الأمور إلى النووي الشامل فإنّ «المُخاطِر» المستعدّ للذهاب إليه، هو الذي سينتصر بعدم التراجع أولاً.
أما المؤشرات الجديدة التي راحت تصاحب خطابات مؤتمر ميونيخ للأمن، فقد جاءت كلها من جانب الإدارة الأميركية ونتنياهو. وذلك من خلال تصعيد المواجهة مع إيران ومحور المقاومة، الأمر الذي أخذ مع الردود عليه يُدخل الوضع في منطقتنا إلى احتمال اندلاع حرب إقليمية، أوسع وأخطر من الحرب في أوكرانيا. وقد جاء العدوان العسكري على حي كفرسوسة في دمشق، ليشكل خرقاً لما كان سائداً من قواعد الاشتباك، كما يعلن الدخول في مرحلة جديدة ذاهبة لطرق أبواب الحرب الإقليمية.
فعندما يصرّح نتنياهو، إثر ذلك العدوان، بأنه لن يسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي (وليس في هذا من جديد غير ما نشأ من ظرف عام جديد)، كما لن يسمح «بالتموضع الإيراني في سورية»، فهذا يعني أنّ القصف الصهيوني في 19 شباط/ فبراير 2023 على سورية، دخل في مرحلة جديدة من استهداف المواقع والأشخاص، وهو ما سيشمل أفراداً من حزب الله كذلك. فنتنياهو أخذ يُغيّر في قواعد الاشتباك التي سادت في السابق، حيث كان القصف الصهيوني على الأرض السورية يجري تحت سقفها، وضمن قيود متفق عليها بين الكيان الصهيوني وروسيا. وهذا يفسّر شدة ردّ الفعل الروسي في التعليق على العدوان الذي تعرّض له حي كفرسوسة في دمشق، والقلعة وحي المزرعة أيضاً.
هذا التصعيد جاء بعد تصعيد أميركي بزيادة العقوبات على إيران، وتغيير في الموقف الأميركي في لبنان. وقد ردّ عليه السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير في 16 شباط/ فبراير. وقد اعتبر أنّ أميركا تهدّد بضرب الساعد الذي يوجع حزب الله في لبنان، وهو انتقال بالتدخل الأميركي في لبنان، وضدّ حزب الله، إلى مستوى جديد يحمل تغييراً نوعياً، يختلف عن قواعد المواجهة السابقة في لبنان (للتدخل الأميركي) حتى الآن.
طبعاً هذا التطوّر في الاستراتيجية الأميركية ارتبط بزيارة وزير الخارجية الأميركي إلى فلسطين، ولقائه بالرئيس محمود عباس، وطلبه منه أن تقوم سلطة رام الله بالسيطرة على الضفة الغربية، وأساساً على مخيم جنين ومدينة نابلس، لحساب الاحتلال الصهيوني، فضلاً عما يقوم به من استيطان، واقتحامات للمسجد الأقصى، وتهويد للقدس.
فأميركا هنا تخطت سياستها السابقة في الضفة الغربية، باتجاه إحداث فتنة فلسطينية داخلية، تتهدّد الوضع الفلسطيني القائم كله. فالمشروع الأميركي هنا، يلتقي من حيث التوقيت والجوهر والهدف، مع التصعيد الذي استهدف إيران وحزب الله، والذي أخذ يضع المنطقة على حدود حرب إقليمية شاملة.
وهنا تدخل أيضاً المواجهة بالمُسيّرات التي جرت في كلّ من أصفهان ومياه الخليج، حيث استهدف الكيان الصهيوني مواقع في إيران، في حين هاجمت طائرة مُسيّرة سفينة «كابمو سكوير» النفطية التي يملكها متموّل «إسرائيلي» في الخليج، الأمر الذي يصبّ في الأجواء نفسها التي راحت تتجه نحو الحرب الإقليمية.
ويبرز السؤال: كيف تفتح أميركا جبهة إيران ـ محور المقاومة باتجاه حرب إقليمية، في الوقت الذي تتخذ فيه الحرب في أوكرانيا، أولوية لها في هذه المرحلة؟ قد يقفز أول ما يقفز إلى الذهن الجواب: ما يواجهه الكيان الصهيوني من تراجع وضغوط، لأنّ الأرض الفلسطينية حيث المواجهة فيها، في غير مصلحة أميركا والكيان الصهيوني، مما يجعل الانتقال إلى إيران ومحور المقاومة يصيب عصفورين في آن، وذلك في جعلها حرباً إقليمية، هروباً من أن تكون حرباً فلسطينية فقط. وبهذا تحقق الهدف الصهيوني فلسطينياً، كما الهدف الأميركي ـ الصهيوني ضدّ إيران وسورية ولبنان. وقد عبّرت أميركا عن شديد غضبها من إيران حول المُسيّرات الإيرانية التي اشترتها روسيا من إيران، ولو قبل حرب أوكرانيا، لأنّ هذه المُسيّرات أثرت نسبياً في مجريات الحرب، فأعلنت إدارة بايدن عن زيادة العقوبات ضد إيران بسببها.
وبكلمة، بغضّ النظر عن أنّ الأولوية الاستراتيجية الأميركية تتركز على الحرب في أوكرانيا، إلّا أنّ الوقائع والمؤشرات آنفة الذكر، تشير إلى أنّ أميركا تتبنّى سياسات، في هذه المرحلة، تطرق أبواب اندلاع حرب إقليمية. فما دام الواقع أهمّ مما يُعتبر منطقياً أو قانوناً في إدارة الصراع، فإنّ المؤشرات الواقعية التي أخذت تبرز، تقول إنّ ثمة توجهاً قوياً في احتمال اندلاع الحرب الإقليمية، مما يجعل الاستعداد لها وكسبها، هو ما يجب أن يكون الشغل الشاغل، خصوصاً فلسطينياً، لما يعنيه ذلك من تقرير لمصير القضية الفلسطينية، ومصير منطقتنا، لعشرات السنين المقبلة.
منير شفيق