الصين على أعتاب إحلال نظام تبادلات مالية عالميّ جديد
لم يكن الأمريكيون في وارد توقّع مناهضة سيطرة الدولار، حيث لعبت المتغيّرات الدولية والإقليمية الأخيرة دور المفعّل لما عملت عليه الصين منذ عام 2016، العام الذي نجحت فيه الصين بعد مفاوضاتٍ مع صندوق النقد الدولي بجعل عملتها المحلية اليوان واحدة من العملات الدولية القابلة لتكون أحد مكوّنات الاحتياطيات من النقد الأجنبي للدول، هذه الخطوة التي مهّدت للعملة الصينية الحضور في النظام النقدي والمالي العالمي، استناداً إلى الإنجازات الصينية في مجال التجارة الدولية، وتقديم القروض للدول النامية والأقل نمواً، كما تنافس أميركا وأوروبا فيما يتعلّق بإنتاج التكنولوجيا، لذا كان عام 2016 عام اعتماد الصين كعملة مقاصّة بمعنى أن الدول تستطيع اقتناءها واعتمادها، في تبادلاتها التجارية كإحدى العملات الأجنبية، وجزءاً من الاحتياطات النقدية، وهذا ما دفع الصين إلى إنشاء مراكز مقاصّة في بعض دول الخليج العربي وآسيا وأوروبا، علاوة على تعهّد البنك المركزي الصيني بتوفير اليوان للدول الطالبة له، علماً أن اليوان يأتي بالمرتبة الرابعة بعد الدولار الأمريكي واليورو والين الياباني بنسبة تصل إلى 2،8% من أجمالي احتياطات النقد الأجنبي في البنوك المركزية للدول المختلفة في الوقت الراهن، والنقطة المهمّة هنا أنّ اعتماد اليوان كعملة مقاصة يندرج ضمن إطار المنافسة لقيادة الاقتصاد العالمي وإنهاء الاستبداد الأمريكي بقيادته، علماً أنّ هناك دولاً أخرى أقدمت على هذه الخطوة قبل الصين بدليل العملات الأخرى كالين الياباني والجنيه الاسترليني والدولار الكندي.
وبالعودة إلى المتغيّرات الدولية والإقليمية الأخيرة التي أدّت دور المفعّل لما عملت عليه الصين منذ عام 2016، جاءت مفرزات حرب الناتو- أوكرانيا ضد روسيا، إيجابية أكثر من كونها سلبية، فرغم أنّها دفعت باتجاه فرض المزيد من العقوبات سواء على روسيا أم إيران بسبب ملفّها النووي من جهة أو الصين تحت ذريعة تايوان، وما تمّ تلفيقه من تهم تخفي مخاوفهم من النمو الصيني اقتصادياً، إلا أن هذه المتغيّرات دفعت المحور الاقتصادي المتضرّر من السياسات الاقتصادية الأمريكية الني تمثّلت بالعقوبات الاقتصادية إلى اتخاذ إجراءات مقاومة كان أحدها ترسيخ سياسة التعامل بالعملة الوطنية، ورفض الدولار بالاستناد إلى ميزاتها الجيوسياسية وتنوّع مواردها وحاجة دول العالم لها واتساع سلسلة المورّدين والمصدّرين في خضم علاقاتهم التجارية مع الصين ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، إضافة إلى الصدقية التي تتجلّى بدعم الصين لسيرتها الاقتصادية بنهج سياسي قائم على احترام الأمن والسلم الدوليين، وتأكيد استقلال الدول وسيادتها وعدم التدخّل بشؤونها الداخلية، الأمر الذي يبعث على الطمأنينة لدى شركائهم.
اليوم التبادلات التجارية بالعملات الوطنية تجاوزت السلعة التقليدية لتركّز بشكلٍ رئيسي على النفط ومشتقاته كونها قيمة سياسية واقتصادية وعسكرية في الوقت ذاته بيد المتحكّمين بها، ولقد أثبتت حرب الناتو- أوكرانيا ضد روسيا صدقية هذا الكلام.
وبالنسبة لمنعكسات التبادلات التجارية بالعملات الوطنية على الدولار الأمريكي، فإنّ ردّ وقف التعامل بين روسيا والصين التي تحتاج للنفط والغاز الروسي لدعم نمو الاقتصادي المتزايد يتسبّب بخسارة حوالي 500 مليون دولار أمريكي سنوياً في سوق المبادلات التجارية، والجميل في الأمر أنّه مع زيادة عدد الدول التي تتعامل بالعملة الوطنية مع الصين وروسيا، ومع التراكم الزمني سوف يؤدّي ذلك إلى تزايد الخسائر للدولار، ولكن هل ستصمت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها عن هذه الخسائر؟ بالتأكيد لديهم طرق بديلة لتلافي الخسائر التي قد يتسبّب بها تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في المستقبل البعيد، وهنا مسألة مهمة تُطرح باستمرار حول مخاطر الارتباط بالعملة المهدّدة بالانهيار، والردّ على هذا الكلام يكون بالقول إنّ مجرد القول “مهدّد للانهيار” ينطوي على مبالغات كبيرة، وبعيد عن الواقع لأنّ أسعار النفط والغاز والمعادن الثمينة مقوّمة بالدولار في الأسواق العالمية، لذا إن تأثير ذلك على أسواق النظام المالي العالمي سيبقى لفترة طويلة دون تأثّر، أما حركة دعم التبادل بالعملات الوطنية فهي مفيدة للدول ذاتها التي تتعامل بهذا المبدأ لكي لا تنهار عملتها أمام القطع الأجنبي، وفي أسوأ الحالات سيكون الاستيراد والتصدير من الأطراف بعملاتهم الوطنية وبما يعزّز قيمة العملة الوطنية ويمنع أي انهيار داخلي للدول المرتبطة بالدولار.
المصدر: البعث