التقاعد في فرنسا.. المعارضة تهدد بالتصعيد
بعد مصادقة مجلس الشيوخ الفرنسي على مشروع قانون إصلاح نظام التقاعد في فرنسا بأغلبية 195 صوتاً مقابل 112، تستعدّ لجنة مشتركة مشكلة من بعض أعضائه وآخرين من الجمعية الوطنية لمناقشته بهدف التوصل إلى صيغة توافقية. ويطرح للتصويت العلني في الجمعية الوطنية في موعد أقصاه 26 آذار الجاري، وينصّ المشروع على تمديد سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً.
لكن شبح المادة 45 من الدستور الفرنسي يلوح في الأفق، فهذه المادة تمنح الحق للجنة المشتركة التدخل لمناقشة أي مشروع قانون يكون موضع خلاف بين الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، وتضمّ اللجنة سبعة أعضاء من مجلس الشيوخ ينتمون إلى الكتل الحزبية الممثلة في الغرفتين. وعلى الرغم من مصادقة مجلس الشيوخ، إلا أن نجاح الحكومة في تحقيق مشروعها معلق بإيجاد اللجنة المشتركة صيغة توافقية تسمح بتمرير القانون دون تصويت البرلمان.
وإذا صوّتت الجمعية الوطنية بالأغلبية على النص التوافقي، فهذا يعني تبني قانون التقاعد الجديد بشكل نهائي، لكن ثمة شكوكاً بأن بعض النواب من اليمين (ما بين 15 إلى 20 نائباً من حزب الجمهوريين) لن يصوتوا على النص التوافقي المقترح، الأمر الذي قد يدفع حكومة إليزابيث بورن إلى استخدام المادة الدستورية لتمريره “بالقوة”، لكن هذا التوقع سيضع الحكومة في مرمى أسهم المعارضة التي بإمكانها تقديم مذكرة حجب الثقة في حال فشلت جميع النقاشات، ولم تتمكّن الغرفتان من إيجاد صيغة توافقية ونهائية لمشروع القانون.
في السياق نفسه، حذّرت المعارضة من مغبة استخدام القانون بالقوة، وقد جاء ذلك على لسان لوران بريجيه، زعيم الكونفدرالية الفرنسية للعمال، واصفاً هذه الخطوة بـ”غير الديمقراطية”، مضيفا أن المصادقة على مشروع قانون مهمّ يخصّ حياة عشرات الملايين من الفرنسيين بهذه السرعة، وبهذه الطريقة، سيكون أمراً غير عادل وغير ديمقراطي.
أما فيليب مارتنيز، زعيم الكونفدرالية العامة للعمال، فقد صرّح بأنه في حال قامت الحكومة بتمرير مشروع إصلاح نظام التقاعد “بالقوة”، فهذا سيعني بأنها “تصبّ الزيت على النار”.
هل سيقبل ماكرون تنظيم استفتاء شعبي لحسم المسألة؟
على الرغم من نتائج استطلاعات الرأي العديدة، والتي أشارت إلى أن غالبية الفرنسيين ترفض هذا المشروع، إلا أن الحكومة مصرّة على تمريره بحجة أن الرئيس ماكرون وعد بذلك خلال حملته الانتخابية الأولى، وهو يراهن على رصيده السياسي عبر هذا المشروع، فهو يطمح لأن يجعل منه أبرز إنجاز في ولايته الثانية، ورمزاً عن عزمه على الإصلاح، غير أنه يصطدم برفض كبير من الفرنسيين.
وبحسب المحللين الفرنسيين: “هذا أول عمل من المحاكاة الساخرة للديمقراطية.. لا تصويت في الجمعية الوطنية، وعندما بدأت الحكومة الإجراء المستعجل، أثناء فحص النص في القراءة الأولى أمام الجمعية الوطنية، تمّ إلغاء أسبوعين من المناقشات ونصف طن من التعديلات وتمّ إرسال النص إلى مجلس الشيوخ بدون تصويت، في نسخته الأولية التي قدمتها الحكومة، مع التعديلات المعتمدة. انتهى النقاش حول الإصلاح الرائد لـ إيمانويل ماكرون كما هو مخطط له بسبب الإجراءات التشريعية المتسارعة. ومع الأخذ في الاعتبار حجم التظاهرات في الشوارع ضد هذا الإصلاح، لا يسع المرء إلا أن يلاحظ غياب الشرعية الشعبية وانعدام الشرعية البرلمانية في هذه المرحلة من الإجراء، وهي عيوب ستشوّه النص لاحقاً بأي حال من الأحوال”.
ويضيف المحلل: “الفصل الثاني من المحاكاة الساخرة هو تصويت معطل في مجلس الشيوخ بعد 10 أيام من النقاش، حيث قامت الحكومة بتنشيط المادة 44،3. التي تنص على تصويت واحد في مجلس الشيوخ على النص بأكمله، مع التعديلات التي لا تعارضها الحكومة. وحتى لا تزعج الحكومة كثيراً، قام حزب معارض يميني كبير، بسحب نحو 200 تعديل، بحيث تمّ التصويت على النص في الوقت المحدد”. الفصل الثالث: “التوفيق الشرعي الزائف من الآن فصاعداً، يجب أن تتوصل لجنة مشتركة، مكونة من ممثلين عن الجمعية الوطنية -لم تصوت على النص- ومجلس الشيوخ -أجبر على التصويت المعطل- إلى حلّ وسط”.
وعليه، ليس هناك شك بأن هذه اللجنة سوف تجد حلاً وسطاً، مؤاتياً أيضاً للحكومة، لأنها تحتفظ منذ بداية الإجراء بالسيطرة على النص وتمنع المناقشات البرلمانية. وبعد مجلس الشيوخ، حان الآن دور اللجنة المشتركة لدخول الساحة، ويبدو أن المعسكر الرئاسي واليمين يسيطران على هذه اللجنة، رغم كلّ ذلك، لا تزال السلطة ترفض لقاء النقابات التي تدعو إلى ضرورة استمرار التظاهرات والإضرابات، لكن المعارضة ما زالت غير قادرة على التوحّد، ويكفي رفض النص في التصويت المقبل قبل مجلس الأمة لدفن الإصلاح، أو التصويت معاً على اقتراح بتوجيه اللوم إلى الحكومة في حال استخدام القانون 49.3.
الجميع يواصل اللعب في معسكره، وهذه لعبة ماكرون، يساعده ويدعمه اليمين الفرنسي السابق المارق والفاقد للمصداقية، مع التأكيد أن ميلانشون لن يخاطر بالتحالف مع ماري لوبان، ولا الاشتراكيين، الأمر الذي يسمح لهذه المعارضة بعدم الحكم والسماح لجميع إصلاحات ماكرون بالمرور، ومع التذكير بأن الحجة الوحيدة المؤيدة لهذا الإصلاح هي في النهاية أنه بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، فإن عدد ساعات عمل الموظفين في فرنسا أقل مما هو عليه في باقي الدول الأوروبية.
ربما يتساءل الفرنسيون: هل قضاء حياتك كلها في العمل غاية بحدّ ذاته؟ لتوضيح هذا الانقطاع في تصور دور الرجل في المجتمع، لابد من الإشارة إلى أنه وفقاً للبيانات الرسمية من وزارة الصحة، فإن متوسط العمر في صحة جيدة هو بالضبط 64 عاماً للنساء، و62 عاماً للرجال، ومع هذا الإصلاح الجديد للمعاشات التقاعدية، والذي يهدف إلى توفير المال على الرجال، لأن الرجال مكلفين بالنسبة للدولة النيوليبرالية، والتي من الواضح أنها تبذل كلّ شيء للتخلص منهم، وبالتالي، سنقضي حياتنا كلها بصحة جيدة في العمل، إنها فرصة لأولئك الذين يحبون عملهم، لكننا للأسف لسنا بالأغلبية، بحسب المحلل الفرنسي.
المصدر: البعث