كيف دُفنت الآلة الحربية الصهيونية في مستنقع جنين؟
كيف دُفنت الآلة الحربية الصهيونية في مستنقع جنين؟
بعد مرور عدة أيام على هجوم قوات الجيش الإسرائيلي على مخيم جنين، في الشهر الحالي، والدمار الهائل الذي تركته في المخيم، بدأت تتضح صورة نتائج الهجوم، العسكرية والسياسية، ويبدو أن معاني وأهداف الهجوم السياسية كانت أهم وأوسع من الأهداف العسكرية المباشرة.
ويأتي الهجوم على مخيم جنين ضمن هوس إسرائيل بالحفاظ على قوة الردع تجاه الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، التي تآكلت وفق المنظور الإسرائيلي بعد تزايد العمليات الفلسطينية في الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة، وباتت تهدد نظام الردع في جبهات أخرى، مثل جبهة جنوب لبنان، كما يعكس الهجوم عقلية الانتقام والعقاب ضد المقاومة الفلسطينية، وضد السكان العزل، وهي ذات العقلية التي نفذتها إسرائيل بداية خمسينيات القرن الماضي، حين أقام الجيش الإسرائيلي وحدة خاصة (وحدة 101) بقيادة أرئيل شارون، وبعدها الوحدة 890 في فرقة المظليين، مهمتها تنفيذ عمليات انتقامية في عمق البلدات الفلسطينية خارج الحدود الإسرائيلية، بعد أن خرجت منها عمليات فدائية.
أوضح الهجوم على مخيم جنين استعمال الجيش الإسرائيلي مزيجاً من عقيدة الضاحية الجنوبية لبيروت - التي صاغها رئيس الأركان الأسبق غادي أيزنكوت بعد حرب لبنان الثانية عام 2006، وتهدف إلى إلحاق دمار بالغ في أي منطقة، بالمرافق العسكرية وفي البنى التحتية من ضمنها المدنية، في حال بادرت أي منظمة بالهجوم على "إسرائيل"، ومن ذهنية الحملات الانتقامية التقليدية ومن ذهنية الجدار الحديدي وترمي إسرائيل من وراء ذلك إلى جعل منفذي الهجمات يدفعون ثمنا بالغا، عن طريق رد عسكري غير مواز للفعل، ويفوقه حجماً بالدمار وقوة النار، حتى لو كانت نتائجه العسكرية المباشرة محدودة وقصيرة المدى، فالمهم من جهة "إسرائيل" هو كيّ وعي الفلسطينيين بعدم جدوى النضال، أو استعمال الأدوات العسكرية ضد "إسرائيل"، ولكي ترسل عبر مخيم جنين رسائل ردع للجبهات الأخرى.
أما من حيث النتائج العسكرية للهجوم على مخيم جنين، فقد أوضح العديد من المحللين العسكريين الإسرائيليين محدوديتها، وكونها قصيرة المدى، حتى لو قتلت إسرائيل عدداً من المقاومين ودمرت قسما كبيرا من المخيم. هذه النتائج لن تخلق واقعاً مغايراً تختفي فيه المقاومة الفلسطينية من مخيم جنين، ولن تغير من معادلات الصراع على المديين المتوسط والبعيد، بل ربما سيكون لها نتائج عكسية.
"معركة غير متكافئة"
وصف عضو إقليم حركة فتح في محافظة جنين "محمود حواشين" الأوضاع في مخيم جنين بأنها "كارثية". وقال لوكالة الأنباء الفرنسية وهو يتفقد الجرحى في مستشفى ابن سينا "هذه معركة غير متكافئة بين قوات عسكرية هائلة وبين شعب أعزل لا يملك سوى إرادته".
وتابع حواشين وهو من مخيم جنين: "باغت الجيش سكان جنين بمسيِّراته واستهدف البنية التحتية من ماء وكهرباء وسيارات، ومعظم الذين استشهدوا مدنيون وليسوا من المقاومة".وقال: "لسنا عشاق دم، نحن عشاق الحرية".
وفي 19 حزيران/يونيو قتل الجيش الإسرائيلي سبعة أشخاص في عملية في جنين التي قصفتها مروحياته لأول مرة منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005). وحمّلت أطراف فلسطينية الإثنين "إسرائيل" مسؤولية التصعيد الجديد.
وقالت حركة الجهاد الإسلامي في بيان إن "كل الخيارات مفتوحة لضرب العدو ردا على عدوانه في جنين". وأضافت: "جنين لن تستسلم، ومقاتلونا عاقدون العزم على المواجهة والقتال مهما بلغت التضحيات". وأعلنت السلطة الفلسطينية في بيان عقب اجتماع طارئ ترأسه الرئيس محمود عباس "وقف جميع الاتصالات واللقاءات مع الجانب الإسرائيلي".
وأضاف البيان إنّ مخرجات اجتماعات العقبة وشرم الشيخ "لم يعد لها جدوى ولم تعد قائمة" وذلك "في ظل عدم الالتزام الإسرائيلي" بها. وأكّد الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة أن "ما تقوم به حكومة الاحتلال في جنين ومخيّمها جريمة حرب جديدة بحق شعبنا الأعزل". وطالبت الخارجية الفلسطينية "بتحرك دولي عاجل لوقف العدوان فورا"، داعية المحكمة الجنائية الدولية إلى "الخروج عن صمتها والبدء بمحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين".
أهمية الموقع عبر التاريخ
يُذكر أن المنطقة التي وُلد فيها مخيم جنين هي بحد ذاتها ذات أهمية تاريخية من حيث القومية الفلسطينية وروح المقاومة ضد الاحتلال. فقد كانت منطقة جنين معقل أول مقاومة فلسطينية منظمة ضد الحكم البريطاني، بقيادة السوري المولد عز الدين القسام، الذي قُتل في معركة عام 1935 في يعبد، على بُعد 18 كيلومتراً فقط غرب جنين. كذلك كان العديد من قادة الثورة الفلسطينية عام 1936 من جنين أو مقيمين فيها، مثل فرحان السعدي ويوسف أبو درة. إلى أن أعطى إنشاء مخيم للاجئين في مكان من هذا التراث السياسي رمزية إضافية. ويخشى العدو أن تتحول جنين إلى معضلة لا يستطيع مواجهتها، ويضطر إلى التعامل معها كأمر واقع، كما هي الحال في غزة.
ولقد تَصَدَّر مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة صور المقاومة والتحدي للعدو الإسرائيلي، وذلك عبر تنفيذ عمليتين فدائيتين داخل فلسطين المحتلة عام 1948، خلال أقل من أسبوعين. الأولى عملية "بني براك" في "تل أبيب" المحتلة، وأدت إلى مقتل خمسة مستوطنين، ونفّذها الشهيد البطل ضياء حمارشة، والثانية في شارع ديزنكوف في قلب "تل أبيب" المحتلة، وقام بها الفدائي الشهيد رعد حازم، وأسفرت عن مقتل 3 مستوطنين وإصابة العشرات.
ويشهد المخيم عمليات إطلاق نار يومية على حواجز الاحتلال، وتصدّت خلايا المقاومة العسكرية لمحاولات اقتحام العدو المتكررة للمخيم بهدف اغتيال المقاومين أو اعتقالهم أو هدم بيوتهم، وأسفرت عن شهداء وجرحى، ونجحت المقاومة في إيقاع إصابات في القوات المتوغلة.
اتخذ العدو عدة خطوات عدوانية لمواجهة ظاهرة المقاومة التي انتشرت في المخيم، الذي أصبح منطلقاً لتنفيذ العمليات الفدائية، فإلى جانب عمليات الاغتيال والاعتقال والهدم، عمد العدو لفرض حصار وعقوبات اقتصادية واجتماعية، هدفها تحريض الحاضنة الشعبية على المقاومة، وعزل الفدائيين، ومن أجل تخويف سائر المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية المحتلة وردعها، حتى لا يمتد إليها العمل الفدائي المقاوم، وخصوصاً تكرار اختراق الجدار وتنفيذ عمليات داخل فلسطين المحتلة عام 1948. وأقرّ العدو بأنّ السلطة الفلسطينية فشلت في إجهاض المقاومة في مخيم جنين، ولم تنجح في تفكيك الخلايا المسلحة، وهو في ذلك قد يمهّد لعمليات اجتياح واسعة للمخيم على غرار ما حدث قبل 20 عاماً في أبريل/نيسان 2002، الأمر الذي أدّى إلى تدمير شبه كامل للمخيم، واستشهاد أكثر من 50 فلسطينياً، وشهد المخيم مقاومة شرسة أسفرت عن قتل 23 جندياً صهيونياً.
أصبحت جنين أكثر خطورة من أي وقت مضى
يرجع نجاح ظاهرة المقاومة في مخيم جنين إلى عدة عوامل، أبرزها قدرة فصائل المقاومة على صَهر هوياتها الحزبية في الإطار الوطني، ويكاد يغيب اللون الحزبي في مخيم جنين. وتعمل خلايا المقاومة، من كل الفصائل، وفق تنسيق وتناغم مشتركين.
وتُعَدّ معركة جنين عام 2002 النموذج الفريد الذي عكس الوحدة الميدانية في مسرح العمليات والمواجهة مع العدو، والتي ترسخت بدماء شهداء المخيم ورموزه، أمثال جمال أبو الهيجا ومحمود طوالبة وأبو جندل، وغيرهم من الشهداء الأبطال، وتشترك كل الفصائل في المخيم، بما فيها حركة "فتح" في العمل المقاوم، على نحو يتناقض مع رغبة السلطة الفلسطينية، التي سعت لتفكيك الخلايا المسلَّحة وفشلت في ذلك، عندما حاولت قبل عدة أشهر شن عملية شاملة تم تخطيطها لمدة طويلة بهدف القضاء على الخلايا العسكرية لفصائل المقاومة، نظراً إلى حالة الإجماع الفصائلية والشعبية الناقمة على السلطة وسياستها ومسارها، سياسياً ووطنياً، وتبنيها التنسيق الأمني مع العدو، الأمر الذي أدّى إلى تراجع مخططات السلطة تجاه المخيم، على نحو أجبر العدو على اللجوء إلى خطة مراقبة المقاومين ورصد تحركاتهم عند خروجهم من المخيم بهدف خطفهم أو اغتيالهم، بواسطة قوات خاصة.
واستفادت فصائل المقاومة في مخيم جنين من تجربة المقاومة في قطاع غزة. وعلى غرار الغرفة المشتركة، التي تضم 13 فصيلاً مقاوماً في قطاع غزة، أنشأت مكونات المقاومة في جنين غرفة مشتركة للتنسيق، ميدانياً وعملياتياً، ومن أجل تبادل المعلومات وعمليات الرصد والتدريب والدعم، عسكرياً ولوجستياً.
وعكست تهديدات قيادة المقاومة في غزة للعدو، وتحذيره من أن شنّه عدواناً عسكرياً شاملاً على المخيم سيؤدي إلى رد عسكري من المقاومة في غزة، حالةَ الربط بين خطَّي جنين - غزة، على غرار معادلة القدس - غزة، الأمر الذي زاد في الدافعية القتالية والروح المقاومة للمقاتلين في جنين.
المصدر: الوقت