بين الدّين الأمريكي وطباعة الدولار
عملت الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تزال، على طباعة تريليونات الدولارات من أجل دعم اقتصادها الداخلي والعالمي، وكانت قد طبعت، عام ٢٠٢٠، نحو ثلاثة تريليونات دولار فقط، وكل ذلك تم في غضون ثلاثة أشهر ونصف. لكن، وعلى عكس طبيعة عمل الأساسيات الاقتصادية المتعارف عليها في المجال المالي، فإن التضخم الأمريكي لم يرتفع إلا بنسبة تسعة بالمائة فقط، ما يترك المزيد من التساؤلات.
وعندما يضطر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي للجوء إلى التسهيل الكمّي يكون الاقتصاد الأمريكي قد وصل إلى عجز المستهلكين عن الشراء، وعجز وحدات قطاعات الأعمال عن بيع منتجاتها وسلعها. وهذا يحدث عندما يفشل أنموذج التمويل التقليدي الذي يعمل به البنك الفيدرالي لتنشيط دورة نمو الاقتصاد العامة، والذي بموجبه يقوم بإقراض البنوك والمصارف الكبيرة مقابل فائدة محدّدة، التي تقوم بدورها بإقراض هذه الأموال للمستهلكين بشكلٍ عام مقابل فائدة معينة تؤمن للبنوك هامش ربح بين النسبتين.
وحين يرتفع التضخم النقدي، يضطر الاحتياطي الفيدرالي لرفع سعر الفائدة بشكلٍ طفيف على القروض التي يصرفها للبنوك العامة، فتقوم البنوك العامة برفع الفائدة بالنسبة نفسها للمحافظة على هامش ربحيتها دون زيادة أو نقصان. لكن الذي يحدث هو أن المستهلكين لم يعودوا يستطيعون تحمل عبء خدمة دين البنوك العامة، فلا يستطيعون الاقتراض، وبالتالي لا يجد البنك زبائن لقروضه بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، وبسبب حالة التضخم فتنخفض القدرة الشرائية لأصحاب الرهن العقاري نتيجة لارتفاع أقساط البنوك العامة. كذلك هو حال بقية المستهلكين الذين سيضطرون لخفض ميزانية نفقات عائلاتهم، نتيجة الغلاء فينخفض الطلب ويتراجع قطاع الأعمال، وعندها يعجز البائع عن بيع بضاعته، كما يعجز المشتري عن شرائها، وبهذه العملية يكون النقد قد تجمّد في مجرى الاقتصاد.
هنا يتدخل الاحتياطي الفيدرالي بخطته التي يمكن وصفها بأنها “سحرية”، والتي أطلق عليها “التسهيل الكمّي”، حيث يقوم بتخفيض سعر الفائدة وضخ مليارات الدولارات في السوق لإعادة تشغيله من جديد، لكن عوضاً عما كان يفعله في الممارسة التقليدية المتّبعة لدى اقتصادات دول أخرى بإقراض البنوك، فإنه يقوم بطباعة الدولار الأمريكي -مئة مليار دولار مثلاً- ويشتري بقيمتها من البنوك سندات مالية مقابل فائدة رمزية لا تتعدى 0.1%. وهو ما يسمح للبنوك العامة بإقراض الشعب بفائدة منخفضة لا تتجاوز –مثلاً– 4% بعد أن كانت 8 و9%.
هذا العمل المصرفي بالتحديد هو الذي مكّن البنك الفيدرالي من المحافظة على سعر الفائدة منخفضاً ومستقراً نوعاً ما عند حدّ يتراوح ما بين 1.58% و2.50% طوال الفترة ما بين عامي 2018 و2020، إلى أن اندلعت جائحة كوفيد ١٩ التي عملت على شلّ الاقتصاد الأمريكي والعالمي، فعاد البنك الفيدرالي لطباعة الدولار مجدّداً، وإقراضه للبنوك الكبرى بفائدة لا تتجاوز 0.05%. وهذه العملية البنكية قد انعكست على الاقتصادين الأمريكي والعالمي بشكلٍ كبير لارتباط الاقتصاد العالمي بالدولار الأمريكي، فقد أصبح لدى الأمريكيين بفضل تخفيض سعر الفائدة، وإمدادات الدولار الناتجة عن طباعة الدولار بكل فئاته بهذه الطريقة الجديدة (التسهيل الكمي الجديد)، وفر في دفع أقساط ديونهم المترتبة عليهم والمجدولة في البنوك المركزية، ومنهم أصحاب الرهن العقاري، فازدادت القدرة الشرائية للشعب الأمريكي، وهذا ما رفع الطلب على السلع في الولايات المتحدة، وبالتالي ارتفاع أسعارها.
هكذا بدأ مؤشر التضخم في الولايات المتحدة بالارتفاع، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف تسلّل هذا التضخم إلى بقية دول واقتصادات العالم؟.
كان ارتفاع أسعار السلع والبضائع في الولايات المتحدة بسبب ارتفاع الطلب عليها، بينما بقيت أسعار البضائع والسلع نفسها في القارتين الأوروبية والآسيوية أخفض، وهو ما يحفز الصناعيين، والمنتجين على تصدير ما ينتجونه من سلع إلى السوق الأمريكية، وتقليل معروضها في بلدانهم، وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعارها في الأسواق العالمية أسوة بأسعارها في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا، فإن طباعة الدولار الأمريكي في الولايات المتحدة تؤدي إلى نقل أثر ارتفاع الأسعار من الولايات المتحدة إلى بقية أسواق العالم، وهذا يحدث بطبيعة الحال لكافة السلع والبضائع والخدمات، ما يعني أن التضخم النقدي يحدث ليس في الولايات المتحدة فقط، وإنما في بلدان أخرى عبر قناة التجارة الدولية.
لم يستغرب كبار الخبراء الماليين في العالم قيام الولايات المتحدة بطباعة الدولار الأمريكي بجميع فئاته، في عام واحد (2022) بما يعادل ٣٥% من إجمالي ما تمت طباعته من دولارات طوال تاريخها المالي والاقتصادي.
بهذا المعنى، وبتلك الطريقة المدروسة بدقة، فإن عملية “التسهيل الكمي” الأمريكي تؤدي إلى زيادة القدرة الشرائية للشعب الأمريكي نتيجة لخفض سعر الفائدة، وإلى زيادة أسعار البضائع والسلع المبيعة في السوق الأمريكية على وجه التحديد نتيجة لارتفاع الطلب عليها، وإلى زيادة الطلب على اليورو الأوروبي، والين الياباني، وبقية عملات الدول لاستخدامها لتلبية طلب الولايات المتحدة للسلع والبضائع المستوردة من هذه البلدان، فيرتفع اليورو وبقية العملات أمام الدولار الأمريكي نتيجة لذلك، وتتعقد المعادلة الاقتصادية للعالم بأسره حيث يدخلون في نفق التضخم، ولا يستطيعون الخروج منه بسهولة.
المصدر: البغث