أمريكا لأوكرانيا: استعادة القرم مستحيلة.. ودعمنا ليس مفتوحا للأبد
على اعتاب الذكرى السنوية الأولى لاندلاع المواجهة الاطلسية ــ الروسية في اوكرانيا، وفي الوقت الذي يرفع الرئيس فولوديمير زيلينسكي، سقف النزال الحربي القائم مع الكرملين، فوجئت كييف بكلام امريكي (غير مسبوق) كان صدر في الايام القليلة الماضية على لسان عدد من المسؤولين الرفيعي المستوى في الادارة الامريكية ــ نزل كالصاعقة على القيادة العسكرية الاوكرانية ــ عبروا فيه عن تشاؤمهم بقدرة كييف على تحقيق مكاسب كبيرة في ساحة المعركة، فضلا عن مصارحة قادتها، بأنهم يواجهون لحظة حرجة لتغيير مسار الحرب، وبأن استعادة أوكرانيا لجزيرة القرم أشبه بالمستحيلات.
المفارقة ان هذه الرؤية الامريكية المستجدة لمستقبل الصراع، تزامنت مع رفع مستوى توريد الأسلحة والمساعدات المقدمة من الولايات المتحدة وحلفائها لكييف، إضافة الى وعدهم بدعمها "طالما الصراع قائم"، بالرغم من تعهد العديد من المحافظين في مجلس النواب الذي يقوده الجمهوريون بسحب الدعم، فيما لا تزال شهية أوروبا طويلة الأمد لتمويل المجهود الحربي لاوكرانيا غير واضحة.
اللافت، ومع ان المسؤولين الامريكيين، اشاروا إلى الدعم القوي من الحزبين الذي رافق كل حزمة أوكرانيا ، وأن الكونغرس أعطى البيت الأبيض أكثر مما طلب، لكنهم أقروا بالمقابل بأن ذلك حدث، عندما كان مجلسا النواب والشيوخ بقيادة الديمقراطيين. ومن المرجح ان يتغير الوضع لاحقا.
مضمون الكلام الامريكي السلبي أحبط اوكرانيا وقلب توقعاتها
في الواقع تعرض زيلينسكي، واركان حكومته لصدمات وضربات ممتالية على الرأس جراء التصريحات الامريكية الاخيرة، التي اطلقها مسؤولوها، ويمكن ايجازها بالاتي:
الصدمة الاولى، التي خيبت آمال أوكرانيا وفاقمت مخاوفها وهواجسها بشكل كبير، جاءت من قبل وزير الخارجية أنطوني بلينكن، الذي قال ردا على سؤال خلال لقاء عبر تطبيق Zoom، مع مجموعة من الخبراء في 15 الجاري ــ عما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لمساعدة كييف لتحقيق هدفها طويل الأجل المتمثل في استعادة الأراضي التي استولت عليها موسكو؟ ـــ ان "المحاولة الأوكرانية لاستعادة شبه جزيرة القرم، ستكون خطا أحمر لفلاديمير بوتين يمكن أن يؤدي إلى رد روسي أوسع".
ووفقًا لأربعة مسؤولين أمريكيين على دراية برد بلينكن، فقد نقل الاخير، أن الولايات المتحدة لا تشجع أوكرانيا على استعادة شبه جزيرة القرم، لكن القرار يعود إلى كييف وحدها. اللافت ان هذا التقييم، عكس كذلك، تعليقات مسؤولي البنتاغون الذي شككوا في الأسابيع الأخيرة بامكانية أوكرانيا الاستيلاء على شبه جزيرة القرم في المستقبل القريب.
ليس هذا فحسب، أعطى بلينكين، (وفقًا لخبيرين حضروا اللقاء)، الانطباع بأن الولايات المتحدة لا تعتبر الدفع لاستعادة شبه جزيرة القرم خطوة حكيمة في هذا الوقت، مع تأكيدهم ان الوزير الامريكي لم يقل هذه الكلمات مباشرة، بل مواربة.
وفي السياق ذاته، لم يأخذ خبيران آخران تعليقات بلينكن بهذه الطريقة. فرئيس الدبلوماسية الامريكي، أشار بنظرهم إلى أن قرار الأوكرانيين فقط هو ما يحاولون اخذه بالقوة، وليس قرار أمريكا، وقد اوضح لهم ذلك بلينكن، الذي كان أكثر انفتاحًا على العمل الأوكراني المحتمل في شبه جزيرة القرم.
بالمقابل، تمثلت الضربة الثانية لزيلنسكي (وهي الاكثر ايلاما له) بالتصريحات التي أدلى به مسؤول كبير في الإدارة الامريكي، واشار فيها إلى قادة أوكرانيا قائلا: "سنواصل محاولة إقناعهم بأننا لا نستطيع فعل أي شيء وكل شيء إلى الأبد" (وهذا التصريح بدا مناقضا للكلام اعلاه، حول استمرار الدعم الامريكي لاوكرانيا طالما تطلب الامر).
أضاف المسؤول، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لمناقشة المسائل الدبلوماسية الحساسة، أن "وجهة نظر الإدارة كانت قوية للغاية.. سيكون من الصعب الاستمرار في الحصول على نفس المستوى من المساعدة الأمنية والاقتصادية من الكونغرس". لاحقا اعرب البيت الأبيض عن استياءه من تعليقات هذا المسؤول الكبير، مؤكدا انه "لا يعكس سياسة الإدارة، ودعم أمريكا سيستمر طالما استغرق الأمر". ومع ذلك لم يتم نفي هذا الكلام من اساسه.
علاوة على ذلك، اكد المسؤول نفسه، إن إدارة بايدن ستستمر في طلب الكثير من التمويل الذي تعتقد أن أوكرانيا بحاجة إليه - كما فعلت طوال الحرب - لكن لا توجد ضمانات بأن الكونغرس سيوافق على هذه الطلبات لا سيما الجناح اليميني المتشدد الذي أعرب عن شكوكه أو معارضته لمزيد من الأموال للحرب.
اما الصفعة الثالثة لاوكرانيا، فكانت نقل الطبيعة الحرجة للأشهر القليلة المقبلة إلى كييف بعبارات فظة من قبل كبار مسؤولي بايدن ــ بما في ذلك نائب مستشار الأمن القومي جون فينر، ونائب وزير الخارجية ويندي شيرمان، ووكيل وزارة الدفاع كولن كال ، وجميعهم زاروا أوكرانيا الشهر الماضي .
الاكثر اهمية، ان مدير وكالة المخابرات المركزية وليام جيه بيرنز، كان قد توجه إلى كييف قبل أسبوع واحد، وسبق هؤلاء المسؤولين جميعا، حيث أطلع زيلينسكي على توقعاته لما تخططه روسيا عسكريًا في الأشهر المقبلة، وأكد على الضرورة الملحة لهذه اللحظة.
ماذا عن الحراك الامريكي ــ الاطلسي لمساعدة كييف عسكريا ومعنويا؟
في الحقيقة، يعتقد مسؤولو إدارة بايدن أن المنعطف الحاسم للمواجهة في أوكرانيا سيأتي هذا الربيع، حيث من المتوقع أن تشن كلا من روسيا وأوكرانيا هجمات مضادة ضد بعضهما البعض، في محاولة لاستعادة الأراضي المفقودة.
من هنا، وتأكيدا على أهمية اللحظة بالنسبة للإدارة الأميركية، كان لافتا نوعية الحضور الامريكي في الدورة الـ59 لمؤتمر ميونخ الدولي للأمن ألمانيا (حيث تتصدر أوكرانيا الاهتمام المجتمعين)، والذي ضم كلا من : نائب الرئيس كاميلا هاريس، ووزير الخارجية بلينكين، ووزير الأمن الداخلي أليخاندرو مايوركاس، فيما من المقرر ان يسافر الرئيس بايدن إلى بولندا الأسبوع المقبل، لإلقاء خطاب ولقاءات في الذكرى السنوية الأولى للصراع.
بموازاة ذلك، تعمل إدارة بايدن أيضًا مع الكونغرس للموافقة على 10 مليارات دولار أخرى كمساعدة مباشرة للميزانية لكييف ومن المتوقع أن تعلن عن حزمة مساعدة عسكرية كبيرة أخرى في الأسبوع المقبل ايضا، وفرض المزيد من العقوبات على الكرملين في نفس الوقت تقريبًا.
زد على ذلك، ان الرسالة الأساسية من وراء هذا الحراك، هو ان بايدن ومساعدوه، يعملون بجدّ، لتجنب أي علامة على الانشقاق أو تراجع عزم الحلفاء الغربيين قبل ذكرى 24 فبراير، على أمل إبلاغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الدعم لأوكرانيا لا يتضاءل.
إضافة الى ذلك، صحيح ان بايدن وكبار مساعديه، يجاهرون، إنهم عازمون على دعم أوكرانيا لأطول فترة ممكنة وبأكمل وجه ممكن، غير انهم من جهة ثانية يحذرون من أن المسار السياسي سوف يصبح أكثر صرامة بمجرد أن تستنفد أوكرانيا حزمة الكونغرس الحالية ، والتي يمكن أن تحدث في وقت مبكر من هذا الصيف.
وتعليقا على ذلك، قالت أندريا كيندال تيلور، مديرة برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز الأمن الأمريكي الجديد: "يبدو الأمر وكأننا نلعب من أجل حرب طويلة". وأضافت: "إنها تشعر وكأنها لحظة من عدم اليقين الشديد حقًا".
ما الهدف الأمريكي من هذه الرسائل الامريكية لاوكرانيا؟
في الحقيقة، ان المناقشات الصريحة التي جرت بين المسؤولين الأمريكيين والاوكرانيين في كييف الشهر الماضي، تحمل في طياتها محاولة من جانب إدارة بايدن لجعل أهداف كييف تتماشى مع ما يمكن للغرب الحفاظ عليه مع اقتراب الحرب من عامها الأول.
لعدة أشهر، أنفقت أوكرانيا موارد وقوات كبيرة للدفاع عن باخموت في منطقة دونباس الشرقية، ولهذا جادل المحللون والمخططون العسكريون الأمريكيون، بأنه من غير الواقعي الدفاع عن المدينة، في وقت واحد، وشن هجوم مضاد في الربيع لاستعادة ما تعتبره الولايات المتحدة أرضا أكثر أهمية.
اكثر من ذلك اعرب المسؤولون الأمريكيون عن مخاوفهم، من أنه إذا استمرت أوكرانيا في القتال في كل مكان ترسل فيه روسيا قوات، فإن ذلك سيعمل لصالح موسكو. وبدلاً من ذلك، حثوا أوكرانيا على إعطاء الأولوية لتوقيت وتنفيذ هجوم الربيع المضاد، لا سيما وأن الولايات المتحدة وأوروبا تدربان المقاتلين الأوكرانيين على بعض الأسلحة الأكثر تعقيدًا التي تشق طريقها إلى ساحة المعركة.
ما تجدر معرفته وقراءة دلالاته، وهو ما كشفه مسؤولون امريكييون مطلعون على الاوضاع في اوكرانيا، أن استعادة شبه الجزيرة الشديدة التحصين، تتجاوز قدرة الجيش الأوكراني في الوقت الحالي ، وقد تم تكرار هذا التقييم الواقعي للجان متعددة في الكابيتول هيل خلال الأسابيع العديدة الماضية.
في الختام، ثمة مخاوف كبيرة في العواصم الغربية من اطالة امدّ الصراع الأوكراني إلى أجل غير مسمى قد يثقل كاهلهم في الوقت الذي يتصارعون فيه مع تحديات أخرى بما في ذلك التضخم المرتفع بعناد وأسعار الطاقة غير المستقرة. بينما السؤال الذي يقض مضاجع جميع المسؤولين الاطلسيين، فهو "كم من الوقت يمكن الاستمرار بدعم اوكرانيا؟ وهو بالمناسبة سؤال مفتوح.
د. علي دربج باحث واستاذ جامعي