وحدة الساحات.. تحوّل استراتيجي ناتج عن "طوفان الأقصى"
على مدى العقد الماضي؛ عملت الولايات المتحدة الأميركية على ترتيب المنطقة بشكل يسمح لها بالانسحاب والتخفيف من وجودها العسكري من أجل تحويل الموارد وتكثيف الجهود باتّجاه روسيا والصين، لتحجيم القدرة الصينية على المنافسة العالمية.
على مدى العقد الماضي؛ عملت الولايات المتحدة الأميركية على ترتيب المنطقة بشكل يسمح لها بالانسحاب والتخفيف من وجودها العسكري من أجل تحويل الموارد وتكثيف الجهود باتّجاه روسيا والصين، لتحجيم القدرة الصينية على المنافسة العالمية. وكان الاتفاق النووي الإيراني وإعادة العلاقات الخليجية بعد الخصومة مع قطر، وكذلك الجهود الكبيرة لتطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي وبعض الأنظمة العربية، كلها تصب في خانة الترتيبات وإعادة ضبط المنطقة بشكل يخدم التوجّهات الأميركية للعقد الجديد، حتّى جاء طوفان الأقصى، فأعاد خلط الأوراق الأميركية، ودفعها لمحاولة الحفاظ على الوضع القائم قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فأرسلت مجموعتين هجوميتين من حاملات الطائرات وغواصة تعمل بالطاقة النووية إلى المنطقة، في حين بدأ كبار المسؤولين الأميركيين بشكل مستمر في زيارة المنطقة، في مقدمتهم الرئيس جو بايدن. تعلّق صحيفة "فورين أفريز" الأميركية بأنه: "مع تضاؤل النفوذ العسكري لواشنطن، ضعفت عضلاتها الدبلوماسية أيضًا. وبدلًا من إظهار العزم، أظهرت زيارات كبار مسؤولي الإدارة المستمرة إلى المنطقة مدى ضآلة النفوذ الذي تحتفظ به الولايات المتحدة".
إذًا؛ فعلى عكس التوجّهات الأميركية والإسرائيلية، فإنّ محور المقاومة يفرض اليوم معادلات تفاقم قلق واشنطن، وتربك حساباتها، خصوصًا مع تشكّل جبهة جديدة توحّد الساحات العابرة للطائفية والمذهبية، وتزيل غبار الزمن المتراكم طوال مرحلة الصراع العربي- الإسرائيلي المليء بالخيبات والنكبات والنكسات، لتصنع زمن الانتصارات، وتنهي مرحلة القدرة على اجتياح بيروت بفرقة موسيقية، كما كان يقول موشيه ديان وزير الحرب الصهيوني في السبعينيات، وتُظهر الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر على حقيقته الهزيلة والضعيفة في أنه أوهن من بيت العنكبوت، الوصف الذي أطلقه عليه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد نصر الله.
ما نراه اليوم ضمن وحدة الساحات، مغاير تمامًا لما شاهدناه طوال مرحلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وقد صنع معادلات جديدة، ونقل الصراع إلى مرحلة لم تكن في حساب العدوّ الإسرائيلي والأميركي. يعلّق الكاتب والإعلامي اللبناني عبد الحسين شبيب، في حديث لموقع العهد الإخباري، بأنّ: "هذه التجربة تُظهر القدرة على استعادة زمام المبادرة في الصراع مع العدوّ الصهيوني في حال كان هناك جدية وإرادة وإخلاص في إيجاد حل للقضية الفلسطينية يعيد الحقوق لأهلها، مزيج من الجيوش النظامية والقوى غير النظامية خرجت من سطوة النظام العالمي والقوّة الأميركية المهمينة عليه، ونسّقت أعمالها ووزعت أدوارها واستخدمت أسلحة متوافرة، لكن بحنكة ووعي ودقة مكّنت محور المقاومة من تحقيق الأثر المطلوب والمحدّد مسبقًا".
ويرى الخبير الاستراتيجي الدكتور ابراهيم اللوزي، في حديث للموقع، بأنّ: "المقارنة بين وحدة الساحات اليوم في عملية طوفان الأقصى مع حروب الجيوش العربية الممتدة خلال تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني من النظرة الاستراتيجية لأهم نتائجها غير منصفة؛ فما نتج عن تلك الحروب في واقع الأمة العربية والإسلامية هو استكانة وذلّ وخنوع استطاع بموجبها العدوّ الصهيوني من التمكّن والسيطرة وتلميع صورته.. إلخ.. إلّا أن ما نتج بعد طوفان الأقصى من استنهاض الأمة العربية والإسلامية وإحيائها يؤكد أن تلك المعارك السابقة كانت مخترقة ونتائجها خدمت العدوّ، أما وحدة الساحات الحالية ومعركتها وما نتج عنها أكدت أن الدول الداعمة لوحدة الساحات عملت واجتهدت بوعي محصّن فكريًا وأمنيًا شهد معه هذا النجاح والنتائج المثمرة".
بالنظر في النتيجة لعمليات إسناد غزّة، تأتي المشاركة اليمنية الفاعلة والمؤثرة في معركة الإسناد بأهدافها المباشرة بدعم غزّة وصمودها، والضغط لإنهاء العدوان ورفع الحصار بشكل كامل، لتتعدى ذلك وتصل إلى تحقيق نتائج استراتيجية، تتمثل بما أشار إليه السيد عبد الملك الحوثي في خطابه الأخير، الخميس الماضي، ووضعها في إطار "تحوّل استراتيجي في واقع المنطقة، بالنسبة إلى النفوذ الأميركي والسيطرة الأميركية... وبالنسبة إلى واقع المنطقة بشكل عام تحوّل استراتيجي، ومعادلات جديدة طرأت على الساحة هي لصالح كلّ أمتنا الإسلامية، ولصالح العرب جميعًا في المقدمة، ونأمل - إن شاء الله - في يوم من الأيام أن تتشجع بلدان أخرى، لتتّجه هذا التوجّه الحر الذي تحتاج إليه أمتنا، وتحتاج إليه شعوبنا".
هذا التحوّل الاستراتيجي يشرحه السيد عبد الملك الحوثي بأنّ: "الأميركي، والذي اعتاد عندما يستهدف أي بلد عربي أو أي بلد إسلامي، أن يتخاذل الجميع، وأن يهدّد كلّ الدول العربية والإسلامية، ثمّ تبقى لتتفرج على ذلك البلد العربي، أو ذلك البلد الإسلامي هنا أو هناك من دون أن تُقَدِّم شيئًا، لماذا؟ لأنّ الأميركي تهدّد وتوعد ومنع، فالكل يتفرجون" ويؤكد السيد: "انتهت هذه المعادلة التي كان يفرضها، تلاشى ذلك النفوذ الذي كان إلى هذه الدرجة، اليوم هناك من لا يخنع لأميركا، من لا يخضع للتهديدات الأميركية، من لا يستسلم للإرادة الأميركية، هناك من يقف بجد وبصدق، بموقفٍ صادقٍ، وموقفٍ فاعلٍ ومؤثر، ولا يخنع للأميركيين؛ ليساند أبناء أمته، ليساند الشعب الفلسطيني، وهذا بالنسبة إلى العدو الأميركي فشل كبير".
هذه القراءة بدأت تقرأ بالطريقة نفسها بما يخص الجبهة اليمنية في الدوائر الغربية، فقد أدت "فورين افريز" أن واشنطن: "لم تتمكّن من وضع حدّ للهجمات المستمرة بالصواريخ والطائرات من دون طيار في البحر الأحمر. وبالفعل، تمكّن الحوثيون من إحداث اضطرابات كبيرة في التجارة الدولية، ما أجبر شركات الشحن الكبرى على تجنب قناة السويس". وتضيف الصحيفة هنا أن: "محاولات الولايات المتحدة لتجميع قوة بحرية متعددة الجنسيات لمواجهة التهديد لم تتمكّن من جذب الشركاء الإقليميين، مثل مصر والأردن والسعودية، والتي ما تزال حذرة من سياسات الإدارة الأميركية في غزّة".
كما تشير مجريات الأحداث الميدانية بوضوح إلى ما ستؤول إليه التطورات، في ما يتعلق باليوم التالي للحرب، والتي لن تكون أبدًا كما يحاول الإسرائيلي والأميركي أن تكون عليه. الصحافي عبد الحسين شبيب يرى أنه :"ستكون هناك قدرة عملية في فرض نظام أمن إقليمي مستقل في منطقتنا في المستقبل، وفي المدى القريب أو المتوسط لن تكون هناك أي صيغة أمنية خارجية من دون موافقة الأطراف التي ستستطيع ممارسة سيادتها على أجوائها ومياهها وأراضيها".
إن اكتشاف نقاط القوّة، في البحرين الأحمر والعربي، بحسب شبيب، سيمكّن اليمن من تقديم إسهام عملي فعّال جدًّا في مساندة أي جبهة تتعرض للعدوان في محور المقاومة، وستشكّل مسار ضغط كبير جدًّا على الأطراف الخارجية المنخرطة أو المؤيدة لأي عدوان على أي جبهة في المحور، وستشكّل هذه المساندة مع تطوير وتكثيف أدواتها وخيارتها وتكتيكاتها فرصة إضافية لفرض شراكة كبيرة في إدارة هذه المنطقة البحرية الاستراتيجية بعيدًا عن الهيمنة الأميركية البريطانية.
جدير بالذكر، هنا، أن عمليات القوات المسلحة اليمنية ووحداتها البحرية مستمرة، بالرغم من الاعتداءات الأميركية البريطانية المتكرّرة، والفاشلة في فرض أي تراجع في القدرات العسكرية، الأمر الذي يقدّم التحوّل الاستراتيجي في المنطقة أمرًا واقعًا، غير قابل للتغيير، بقدر ما هو ذاهب نحو المزيد من التطور والتنسيق والتكامل بين قوى المقاومة والجهاد، من اليمن إلى لبنان والعراق. وكما فرضت التحولات الحالية على بعض الأنظمة الابتعاد ولو نسبيًّا عن الأميركي - كما حصل في رفض الانضمام إلى ما سُمّي "تحالف الازدهار" لحماية العدوّ الإسرائيلي- وكما فرضت نتائج العدوان على اليمن، فإنّ نتيجة طوفان الأقصى وجبهات الإسناد ستفرض بالتاكيد تغييرات جوهرية في المنطقة، ما تزال الولايات المتحدة تعمل من أجل وضع العراقيل أمامها، لكن بأدوات بالية وأساليب مهترئة.