واشنطن شنت أكثر الحروب فهل هذه محاولتها الأخيرة؟
إذا كانت المواقف والشعارات التي تظهر في نشاط السياسة الخارجية الأميركية في العالم تستخدم عبارات الدعوة للسلام والمفاوضات في حل المشكلات الدولية والإقليمية، فإن التاريخ يسجل منذ الحرب العالمية الثانية أن السياسة الأميركية لم تكن تنشد السلام بل الحروب لفرض إرادتها ومصالحها الامبريالية سواء على الأعداء أم الأصدقاء، ولم تكن توافق على التفاوض لتقديم التنازلات إلا بعد تأكدها من عجز قدراتها العسكرية على فرض ما تريد، وتشير معظم الدراسات والأبحاث التي تتناول تحديد هوية أو فئة من يملك القرار في هذه المسائل الاستراتيجية، إلى أن هذه الفئة هي «مجمع الصناعات العسكرية» وهذا ما أكده رئيس الولايات المتحدة في الخمسينيات دوايت أيزنهاور حين قال إن سلطة الأمن القومي تجعل هذا المجمع أقوى سلطة في الدولة، فباسم هذا الأمن القومي يتمتع المجمع بالأهمية الكبرى في القرارات الأميركية السياسية.
يوضح المقدم المتقاعد من سلاح الجو الأميركي والمحاضر في التاريخ وليام آستور في تحليل نشره في مجلة «أنتي وور» الأميركية الإلكترونية أن سلطة هذا المجمع القوية تجعل الحكم الأميركي غير ديموقراطي كلياً وهو يحصل على أكثر من نصف الميزانية الفدرالية التقديرية، وكان منذ الخمسينيات يحقق أرباحا طائلة من الحروب الأميركية مثل حرب كوريا 1950 – 1953 ثم الحرب ضد الصين في تايوان 1955 ثم حرب فيتنام 1964 وغيرها من الحروب، بل إن واشنطن شنت 27 حرباً خلال القرن التاسع عشر في القارة الأميركية نفسها ضد فرنسا وبريطانيا والمكسيك ثم في آسيا، وضمت لها بلاداً من أميركا اللاتينية، ورغم سجل الهزائم الأميركية في عدد من الحروب، بقيت المؤسسة العسكرية الأميركية أقوى هيئة تفرض مصالحها في كل القرارات الأميركية المتعلقة بالحرب والسلم واحتكار بيع صناعاتها الحربية للحلفاء والأصدقاء بل للأعداء الذين هزمتهم في الحرب العالمية الثانية وقتلت مئات الآلاف من شعوبهم أثناء الحرب العالمية الثانية مثل كوريا الجنوبية واليابان وإيطاليا وألمانيا، ثم شعوب يوغوسلافيا في التسعينيات، وربما لا تخلو قارة أو أي منطقة في العالم إلا وقتلت فيها آلة الحرب الأميركية بجنودها أو بالأسلحة التي تبيعها ملايين من أفراد هذه الشعوب بما في ذلك معظم الشعوب الآسيوية.
الواضح تماما أن تجارة الحروب الأميركية المباشرة وغير المباشرة تزيد من قدرة مجمع الصناعات العسكرية الأميركية على التدخل بقرارات الإدارات الأميركية ومؤسساتها التشريعية ليصبح ما يسمى بالنظام الديمقراطي خاضعاً لمصالح هذا المجمع الذي يحقق من الحروب وأشكال التدخل العسكري وخلق الأزمات، أرباحاً تفوق التصور، فأسلحة الحرب أصبحت بموجب السجل التاريخي، أكثر سلعة تحقق رواجا لم ينقطع خلال القرنين الماضيين وأرباحا هائلة لأصحاب المجمع وحلفائهم في المؤسسات الأميركية الحاكمة، فما بالك في هذه الحرب الأميركية التي تشن ضد روسيا والصين في قارتين؟
لا شك أن أصحاب مجمع الصناعات الحربية الأميركية ينشغلون الآن بأقصى جهودهم لتزويد كل الدول التي قدمت السلاح لأوكرانيا بالأسلحة لتحقيق أرباحهم على حساب الدماء التي تراق في هذه الحرب بل يعدون أنفسهم بموجب الأنباء الواردة من الولايات المتحدة، لعقد صفقات لا نظير لها مع وزارة الدفاع الأميركية ومع المتعاقدين مع الوزارة من دول أخرى مثل ألمانيا وبولندا وبعض دول الأطلسي للتعويض عن أسلحة أرسلتها لأوكرانيا، وبالمقابل هل هناك من يرى أن دولاً أوروبية عديدة لا ترى لها مصلحة إستراتيجية في وقوع حرب مباشرة بين واشنطن ومعها الأطلسي ضد روسيا، لأنها ستكون خاسرة إذا انتهت الحرب ببقاء النظام الأميركي الأحادي الذي جعل الولايات المتحدة ترث مستعمرات فرنسا وبريطانيا بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بينما ستكون بعض الدول الأوروبية وبخاصة فرنسا وألمانيا وإيطاليا، هذه المرة، أقل خسارة إذا ضعفت القوة الأميركية وحققت روسيا أهم أهدافها في تغيير النظام الأميركي الأحادي وتزايدت فرصة بناء نظام عالمي تشارك برسمه هذه الدول وتحقق بوساطته دوراً أفضل من دورها الراهن على الساحة الدولية، ولا أحد يستبعد أن تبدأ بعض الدول الأوروبية بوضع حسابات تمنعها من المشاركة المباشرة بحرب ضد الصين وروسيا لأن وحدتهما في أي مجابهة ستكون موحدة إذا ما استهدفت واشنطن الصين أو روسيا، وتدرك أوروبا أن مصالحها في آسيا ليست بالقيمة الضخمة نفسها لمصالح واشنطن التي ستوظف الأطلسي ضد الصين لحماية تلك المصالح الكبيرة، وربما تقود هذه العوامل إلى تراجع واشنطن عن فكرة الصدام المباشر ضد الصين وضد روسيا في النهاية، ولذلك تنتظر دول أوروبية عديدة فتح فرصة تفاوض محتملة تراها ضرورية لوقف عجلة الصدام المباشر بين القوى الكبرى والاتفاق على حل تنتفي فيه أسباب ومبررات العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا، وحينئذ ستكون هذه الحرب الأميركية غير المباشرة هي آخر أشكال الحروب التي تلجأ إليها.
المصدر: الوطن