المقاومة الفلسطينية تخترق عمق الأراضي المحتلة وتغير المعادلات
عندما أسست السلطات الصهيونية کيانها المزيف في عام 1948، اعتقدت أن الصراعات والحروب الأولى مع الفلسطينيين كانت فقط آلام الولادة لهذا الکيان، ومع مرور الوقت سيتمكن اليهود أخيرًا من العيش في سلام وأمن في أرض الميعاد، لكن مع مرور أكثر من سبعة عقود لم يتحقق هذا الحلم للقادة الصهاينة، وأصبحت الأراضي المحتلة أكثر انعدامًا للأمن يومًا بعد يوم.
كان المستوطنون الذين يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط هم من کانوا يشعرون بالخوف من المقاومة حتى وقت قريب، لكن الآن كل الصهاينة يواجهون هذا التحدي.
في الأسبوع الماضي، خلال العملية الاستشهادية التي قام بها فلسطينيان في تل أبيب، أصيب خمسة صهاينة وتحولت على الفور عاصمة الکيان الصهيوني إلى منطقة حرب، وهي العملية التي وصفتها حركة حماس بأنها رد على جرائم الصهاينة.
أثارت هذه العملية التي لم يسبق لها مثيل من نوعها الخوف والذعر في تل أبيب، وطالب رئيس بلدية هذه المدينة، في إشارة إلى أعمال الشغب، سكان تل أبيب بوقف الاحتجاجات الشعبية فورًا، وذلك بالنظر إلی حالة عدم الاستقرار الحالية.
في الشهرين الماضيين، صادق مجلس الوزراء المتشدد بزعامة بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الکيان الصهيوني، على العديد من الخطط الأمنية من أجل ضمان أمن المستوطنين في الضفة الغربية، ورأى أنه بتسليح المستوطنين وزيادة عدد القوات الأمنية ومحاصرة هذه المنطقة، يمكنه السيطرة على الفلسطينيين في هذه المنطقة الصغيرة ومنع تنفيذ عمليات استشهادية، لكن عملية تل أبيب أظهرت أن القدرة العملياتية للفلسطينيين تفوق تصور الصهاينة، وأن جميع أجزاء الأراضي المحتلة تقع ضمن دائرة المقاومة العملياتية.
في العام الماضي، أصبحت فصائل المقاومة في الضفة الغربية أكثر قوةً على الرغم من الإجراءات الأمنية المكثفة لتل أبيب، والآن أصبحت "عرين الأسود" ومقاتلون فلسطينيون آخرون لهم اليد العليا في التطورات الميدانية في الضفة الغربية.
ورغم أنه قبل ذلك، لم يكن لدى الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية ما يكفي من الإلمام والخبرة بالنضال المسلح، إلا أنهم الآن توغلوا في قلب الأراضي المحتلة ويقومون بعملياتهم دون خوف من الجيش الصهيوني المدجج بالسلاح.
تظهر العمليات الفلسطينية على بعد مئات الكيلومترات من الضفة الغربية، أن المقاومة تركت النهج الدفاعي ودخلت مرحلة الهجوم، حتى إن تل أبيب لم تعد آمنةً للمحتلين.
حالياً، المقاومة لا تکتفي بـ"الهجمات المؤذية" بل تضع خطاً أحمر وشروطاً للمحتلين، وتحذر من أنهم إذا أخطؤوا سيجعلون كل الأراضي المحتلة غير آمنة. وأثبتت عملية تل أبيب أن المقاومة تفي بوعودها، ومع استمرار الانتفاضة الجديدة في الضفة الغربية سنشهد المزيد من العمليات الاستشهادية في عمق أراضي عام 1948.
فشل مشروع بناء الأمة اليهودية
حاول الکيان الصهيوني، منذ تاريخه المزيف، إزالة هوية الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، ودمجهم في المجتمع الصهيوني، ومأسسة الاحتلال بطريقة ما للأجيال الجديدة من الفلسطينيين، حيث لا يكون هناك أساسًا أي إيمان بقضية الاحتلال في أذهان الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي عام 1948.
ادعى الصهاينة أن الكيان الصهيوني سيبقى إلى الأبد "دولةً يهوديةً"، وأن جميع سكانه يجب أن يكون لهم نفس الهوية، لكن مع مرور 75 عامًا فشلوا في هذا المشروع، ورغم القصف الإعلامي والدعائي ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي 1948 و1967، إلا أنهم لم يفقدوا إيمانهم بالقضية الفلسطينية.
يشكل الفلسطينيون الذين يعيشون في هذه المناطق حوالي 19.7٪ من سكان الكيان الصهيوني، الذين يقدر عددهم بنحو 1.8 مليون نسمة. وعلى الرغم من أن الصهاينة اعتقدوا أنه بعد سبعة عقود من الاحتلال، تمكنوا من مواءمة الجيل الثالث من الفلسطينيين من أراضي 1948 و1967 مع سياساتهم، ولكن خابت آمال تل أبيب، والآن الفلسطينيون الذين يعيشون في هذه الأراضي يقاتلون الغزاة بأسلوبهم الخاص.
وفي عدة مناسبات نظّم العرب المقيمون في أراضي عام 1948، ردًا على جرائم الصهاينة في الضفة الغربية وقطاع غزة، احتجاجات واسعة ضد المحتلين لإظهار تضامنهم مع إخوانهم في مناطق أخرى.
وقد أظهرت الاحتجاجات الحاشدة للفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي 1948 في أكتوبر 2015 ردًا على قتل الفلسطينيين في الضفة الغربية، أنه على الرغم من الفصل بين الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، فإن الفلسطينيين الذين يعيشون في هذه المنطقة لم ينسوا أبدًا إخوانهم، ومثل الأيام الأولى للاحتلال، وبنفس الغضب والاشمئزاز من الصهاينة، فإنهم يواصلون نضالهم لاستعادة الأراضي المفقودة، وسياسات الكيان الصهيوني لا يمكنها تقسيم الفلسطينيين.
کما رأينا مثالاً واضحاً على تضامن سكان 1948 مع الفلسطينيين في أيار 2021، عندما بدأ آلاف الفلسطينيين في هذه المنطقة انتفاضةً لم يسبق لها مثيل في تاريخ فلسطين المحتلة، واستطاعت تغيير المعادلات الأمنية للصهاينة.
الصراعات التي يسميها الفلسطينيون بـ "هبة الكرامة"، بدأت تدريجيًا دعماً لمدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى واعتداءات الصهاينة، وكذلك احتجاجاً على الهجرة القسرية للفلسطينيين من سكان حي "الشيخ جراح" في القدس.
واشتدت حدة هذه الانتفاضة الشعبية مع اندلاع حرب غزة، المعروفة باسم "سيف القدس"، وشملت معظم المدن الساحلية والبلدات العربية في الأراضي المحتلة عام 1948، ما أدى إلى اشتباكات غير مسبوقة بين الفلسطينيين والصهاينة.
كانت هذه الاحتجاجات دليلاً على فشل المشروع الزائف المتمثل في "بناء دولة قومية على شكل إسرائيل"، وأثارت تصرفات الفلسطينيين في مناطق 1948 قلقاً كبيراً لدى سلطات تل أبيب.
وفي مايو 2021، رداً على احتجاجات العرب المقيمين في أراضي 1948، قال نتنياهو إن "إسرائيل" تقاتل على جبهتين في نفس الوقت، واحدة مع غزة والأخرى على الجبهة الداخلية.
يجب أن نضيف جبهة المقاومة الثالثة في الضفة الغربية لهذا القلق الصهاينة، والتي أصبحت كارثةً على حياة الصهاينة في العام الماضي، والآن هناك ثلاث جبهات قوية أمام تل أبيب لا يستطيع الاحتلال التعامل معها.
كان رد فعل فلسطينيي أراضي 1948 على تصرفات الكيان الصهيوني في إزالة العلم من الأماكن العامة، نوعًا آخر من فشل الصهاينة في توحيد المجتمع الصهيوني، أظهر خلالها الفلسطينيون المقيمون في الأراضي المحتلة، أن العيش إلى جانب المحتلين لم يقض على قوميتهم وهويتهم الفلسطينية، وأنهم قد يوجهون الضربة الأخيرة لانهيار الکيان الصهيوني.
لم يفشل الکيان الصهيوني في تغيير هوية الفلسطينيين فحسب، بل فشل أيضًا في دمج المهاجرين الصهاينة في المجتمع الصهيوني، حيث غادر مئات الآلاف من الصهاينة الأراضي المحتلة في العقد الماضي وبدؤوا الهجرة العكسية، وهو إجراء سيزداد في المستقبل مع ظروف انعدام الأمن الحالية، وقد تكون هذه القضية مكلفةً بالنسبة لتل أبيب.
وبينما يتزايد كل يوم عدد الشبان الفلسطينيين الذين ينضمون إلى فصائل المقاومة في الضفة الغربية، ولکن من ناحية أخرى تختلف ظروف الکيان الإسرائيلي.
ففي الأشهر الأخيرة، ازداد العصيان في الجيش الإسرائيلي، وقوات الأمن والجنود والضباط وحتى الجنرالات الصهاينة، ردًا على تصرفات المتطرفين في الحكومة، عصوا أوامر رجال الحكومة وتركوا الخدمة، وهذه القضية يمكن أن تغير الموازين لصالح الفلسطينيين. لأنه في غياب جيش مطيع وقوي، لا يمكن الانتصار في القتال مع الفلسطينيين الشجعان، وهذا الضعف يظهر بوضوح في طبقات مختلفة من جيش الاحتلال.
ويأتي عصيان الجيش للحكومة المتطرفة بينما انتشرت الاحتجاجات المدنية في جميع أنحاء الأراضي المحتلة خلال الشهرين الماضيين، ما زاد من حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن في هذه المنطقة.
وقد اعترف كبار المسؤولين في تل أبيب مرارًا بأنهم على وشك الانهيار من الداخل، وأن إسقاط الکيان لن يتم من قبل الفلسطينيين وإيران، بل على أيدي الصهاينة أنفسهم. والمتطرفون في الحكومة، الذين هم السبب الرئيسي للأزمة السياسية وانعدام الأمن في الأراضي المحتلة، سيسرع في انحدار هذا الانهيار.
إن اتساع نطاق العمليات الاستشهادية لفلسطينيي الضفة الغربية إلى قلب الأراضي المحتلة، وما تلاه من انتفاضة لفلسطينيي أراضي 1948 و1967 ضد المحتلين، يجعل الکيان الصهيوني أكثر حذرًا في التخطيط لأي حرب مع فصائل المقاومة في الضفة الغربية وغزة والنظر في جميع جوانب هذه الصراعات، لأن غزة هذه المرة ليست وحدها التي يحشد الکيان كل قوته للتعامل معها، بل هناك جبهتان أخريان لهما إسهام كبير في تغيير المعادلات لصالح المقاومة، التي تمكنت من بسط ميزان الرعب في جميع أنحاء الأراضي المحتلة.
المصدر: الوقت